خلل وظيفي في الزيادة السكانية بمصر

معرفة القيمة المادية التي تنطوي عليها الثروة البشرية في مصر تعد أول خطوة يجب أن تعمل عليها الحكومة كي لا تشعر أنها أمام أخطبوط يأكل الأخضر واليابس في البلاد.
الجمعة 2022/03/11
من يتحمل المسؤولية؟

لا يستطيع المتابع تجاهل مفارقة أن مصر تبذل جهودا لخفض الزيادة في عدد السكان وتستخدم وسائل عديدة للترغيب والترهيب لحض المواطنين على عدم إنجاب أكثر من طفلين، بينما دولة فقيرة مثل تايلاند ليست أفضل حالا من مصر وإمكانياتها تقدم منحا نقدية وحوافز ضريبية لزيادة معدل المواليد فيها، ولديها تعداد سكان يبلغ حوالي 70 مليون نسمة، أي أقل بنحو 40 مليون نسمة من مصر.

يبدو الرقم في الحالتين كبيرا والقدرات الاقتصادية الشاملة ربما تكون متشابهة إلى حد ما، لكن طريقة التعامل مختلفة حيث تحاول الحكومات المتعاقبة في مصر منذ حوالي أربعين عاما دفع الناس نحو تخفيض نسبة المواليد بلا جدوى حقيقية، واستخدمت أنواعا عدة من الدعاية المباشرة ولم تعبأ بالتفكير خارج الصندوق، وهو الاستثمار في هذه الزيادة واستغلالها بطريقة علمية قبل أن تواجه مصير تايلاند.

ما حدث في دولة تايلاند الواقعة في شبه الجزيرة الهندية الصينية، في جنوب شرق آسيا، أن حكومتها أدركت أن عدد السكان سوف يشهد تناقصا كبيرا مع حلول عام 2030، ما يعني حدوث مشكلات في نقص العمالة وتراجع في الشريحة العمرية القادرة على العمل، لأنها من الدول التي تملك أعلى نسبة من كبار السن.

لو علم البعض من المصريين المقتنعين بزيادة الإنجاب ماذا تفعل حكومة تايلاند مع مواطنيها لتمنوا العيش هناك وشدوا الرحال إلى أراضيها، فعلاوة على المنح المادية والحوافز المعنوية تقدم مقويات وفيتامينات للرجال لتشجيعهم على العلاقة الحميمة مع زوجاتهم وبالتالي زيادة الإنجاب.

يتجاوز الأمر السخرية التي يمكن أن يتعامل بها البعض مع هذه القضية الحيوية، لأنه من المهم عدم المضي في طريق مسدود وجرى تجريبه على مدار عقود ولم يأت بالنتيجة المرجوة منه، فكل برامج تنظيم أو تحديد النسل في مصر أخفقت في تحقيق أهدافها، إذ هناك قناعات دينية واجتماعية واقتصادية لدى شريحة كبيرة من المواطنين تحول دون الحصول على مردودات إيجابية مهما بلغت تكلفة الإعلانات المخصصة.

إذا كان تم التصدي سياسيا للزيادة بلا وصول إلى نتيجة ملموسة من الضروري التفكير بطريقة منهجية أخرى تتعلق بالاستثمار في الزيادة السكانية، والبحث عن وسائل جادة بغرض توظيفها بدلا من إهمالها، وما حصل من انخفاض نسبي لدى بعض الأسر في الحضر نبع من ثقافة الزوجين وإيمانهما بالفكرة، فلا ترغيب دفعهما للتنظيم أو ترهيب حثهما على التحديد.

تريد الحكومة المصرية تحميل مسؤولية الزيادة للمواطنين وترفض التشكيك في خططها وبرامجها والأدوات التي تلجأ إليها، لذلك تمعن في القسوة المادية أحيانا لغرس فكرتها في أذهان الناس الذين عند لحظة معينة سيلجأون إلى خفض الزيادة تلقائيا، وربما الإضراب عن الزواج أصلا في ظل موجة الغلاء المتصاعدة في أسعار السلع والخدمات التي يعجز الكثير من الشباب والفتيات عن التناغم معها.

تصب الحكومة تفكيرها في زاوية المناشدات والمبادرات والمؤتمرات والتصريحات لحث الناس على خفض المواليد، ولو بذلت هذا الجهد أو نصفه في تقديم حلول مبتكرة لتمكنت من حل جزء معتبر في أزمة سكانية لا أحد ينكر تفاعلاتها القاتمة

علاوة على أن التحولات الجارية في العالم من حروب وصراعات ونزاعات كفيلة بأن تدفع إلى التفكير في الاستعانة بأيدي عاملة من دول بها زيادة سكانية مثل مصر، وبدلا من أن تشكو الحكومة منها تستطيع العمل على تعليمها وتدريبها وتأهيلها وتهيئتها لتكون صالحة لأي من الأسواق القريبة منها.

يتبادر إلى ذهن البعض أن التقدم التكنولوجي سوف يؤدي إلى تخفيض الاعتماد على العنصر البشري، وهذه حقيقة، لكن العنصر المؤهل الذي يستطيع القيام بمهام معينة قد يصبح عملة نادرة، وهو ما يجب الاستعداد له والالتفات إليه، لأن الشكوى المستمرة من التصاعد الحاصل في عدد السكان في مصر لن يقدم حلا للأزمة.

تتحدث الحكومة عن مشروعات تنموية عملاقة وتشييد بنية تحتية متميزة ومدن جديدة رائعة واستصلاح الملايين من الأفدنة لزراعتها بمحاصيل مختلفة، وكلها كفيلة بأن تستوعب جزءا مهما من الزيادة السكانية التي تحولت إلى أزمة تلوكها ألسنة المسؤولين كأنها الوحيدة التي تعاني منها البلاد وتنسب لها كل العقبات التي لم تفلح الحكومة في تجاوزها، بالحق أو بالباطل.

تكمن المشكلة الرئيسية في عدم نجاح خطط الحكومة في تأهيل الشباب للوظائف التي يحتاجها سوق العمل فعلا، فعندما أشار الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مؤخرا إلى أن الحكومة طلبت من خلال مسابقة عددا من المهندسين تقدم نحو 300 ألف من خريجي كليات الهندسة والحاسبات الآلية ومعاهدها ولم ينجح سوى 111 شخصا.

فهم البعض كلام السيسي على أنه تنصل من المسؤولية السياسية، بينما المشكلة تتعلق هنا بنظام التعليم الذي منح هؤلاء شهادة جامعية عديمة الجدوى عمليا، وهو ما يجب العمل على تصويبه، فكل خطط تحديث التعليم لم تتمكن من تقديم فئة كبيرة تصلح لسوق العمل في الهندسة بفروعها المختلفة أو غيرها من التخصصات.

ولذلك فالزيادة السكانية عارض لمرض وليس المرض نفسه، تحتاج إلى استدارة في آليات الحكومة كي تتمكن من تحاشي مخاطرها المدمرة عبر التفكير السليم في الاستفادة منها وتبني المنهج العلمي الذي يقلل من تداعياتها السلبية، وإلا بماذا تفسر الحكومة لجوء بعض الشركات العاملة في مصر إلى الاستعانة بعمالة أجنبية؟

تفتقر الحكومة للأرقام المحددة والمعلومات الدقيقة حول هذه المسألة لتقديمها للإعلام، غير أنها ظاهرة يمكن ملاحظتها في بعض الشركات الوطنية، وليس الأجنبية فقط، كما أن أعداد العاملات في منازل مصريين من جنسيات آسيوية وأفريقية تتزايد، وهي علامة تنذر بركود في الأيدي العاملة المحلية لا علاقة لها بالانفجار السكاني.

تعد معرفة القيمة المادية التي تنطوي عليها الثروة البشرية في مصر، كما هو في تايلاند، أول خطوة يجب أن تعمل عليها الحكومة كي لا تشعر أنها أمام أخطبوط يأكل الأخضر واليابس في البلاد، فتوجيه الطاقة البشرية الوجهة الصحيحة مسؤولية الدولة، وتوزيعها بطريقة عملية لا يجعل هناك أزمات محتدمة بسبب الزيادة السكانية.

يأتي الانخفاض تلقائيا عندما يتم القضاء على العشوائية في الشارع التي أدت إلى زيادة المواليد لدى بعض الأسر بزعم أنهم أداة اقتصادية نافعة، حيث يتم القذف بهم ويمارسون مهنا طفيلية، مهما بلغت وضاعتها هي في النهاية تدر دخلا لأصحابها.

تصب الحكومة تفكيرها في زاوية المناشدات والمبادرات والمؤتمرات والتصريحات لحث الناس على خفض المواليد، ولو بذلت هذا الجهد أو نصفه في تقديم حلول مبتكرة لتمكنت من حل جزء معتبر في أزمة سكانية لا أحد ينكر تفاعلاتها القاتمة، لكن النكران يتعلق بالاستسهال في المعالجة ورمي الكرة في ملعب المواطنين وحدهم.

8