خطورة التنازل الطوعي عن الديمقراطيّة في العراق

تثمين مواقف رجال الدين في مواقف سياسية يعتبر تنازلاً طوعياً من الأحزاب والحركات المدافعة عن الديمقراطيّة ونتائج ذلك ستكون كارثيّة على المدى البعيد هذا إن كانت هناك ديمقراطية فعلا بالعراق.
الخميس 2022/09/08
مكانهم بعيدا عن السياسة

على الرغم من أنّ “الديمقراطيّة” فُرِضَت فرضا على العراق، إلّا أنّها ورغم حاجتنا الماسّة إليها لبناء بلدنا، لم تستطع أن تلبّي أبسط شروطها لخوض عمليّة سياسيّة حقيقيّة طيلة تصديرها لنا منذ الاحتلال الأميركي للبلاد إلى اليوم، هذا إن كان للديمقراطيّة حضور في المجتمع والدولة. ومن الضروري جدا عدم إضفاء صفة الديمقراطيّة على شكل النظام السياسي العراقي الحالي لمجرد كونه يؤمن بصناديق الاقتراع، فصناديق الاقتراع لوحدها ليست دليلا على ديمقراطيّة نظام ما.

هناك الكثير من الأنظمة وتحت ظروف سياسيّة معيّنة تذهب إلى صناديق الاقتراع لتأكيد شرعيّتها، وهذا ما ذهب إليه النظام البعثي وهو يؤسس ما يسمّى بالمجلس الوطني عام 1970، ولم يذهب العراقيّون إلى صناديق الاقتراع لانتخاب “مندوبيهم” إلّا في العام 1980، أي بعد تولّي الدكتاتور صدام حسين السلطة. ومن أهم قرارات المجلس الذي تغيّر اسمه إلى مجلس النوّاب العراقي بعدها هو توصية أعضائه بالإجماع على تولّي الدكتاتور السلطة مدى الحياة!

إذا اعتبرنا ومن خلال التجربة القاسيّة التي مرّ بها وطننا وشعبنا، والمحن التي مرّا بهما خلال العهد الدكتاتوري يعود لافتقارنا لديمقراطية حقيقيّة، وأنّ النظام البعثي هو المسؤول عن جميع الكوارث والأزمات التي مرّ بها العراق نتيجة حروب الدكتاتور العبثية والحصار الظالم على شعبنا، فإننا بالحقيقة ننظر إلى النصف الخالي من الكأس فقط. أمّا النصف الآخر من الكأس وهو الأهم والمملوء فهو تجاهلنا لحقيقة أنّ الدكتاتور ونظامه كان لهما عمق شعبيّ لدى قطاعات لا بأس بها من شعبنا، سواء أكان هذا العمق عن قناعة أو عن خوف من سطوة السلطة وبشاعة جرائمها. كما لا يجب أن نغفل اصطفاف الكثير من المثقفين العراقيين والعرب، إلى جانب السلطة الدكتاتورية وتزيين وجهها القبيح، وعلى الضد من مصالح شعبنا وتطلعاته للعيش بأمان وكرامة.

وإذا نظرنا إلى العراق اليوم وهو يمرّ بأزمة سياسيّة هي امتداد لأزماته السياسيّة منذ اعتماد “الديمقراطيّة” التي أنتجت نظام المحاصصة الطائفيّة، واعتبرناها أي “الديمقراطيّة” مسؤولة عن كل الجرائم السياسيّة والاجتماعية والاقتصاديّة التي حصلت وتحصل اليوم، فإننا في الحقيقة ننظر إلى الجزء الخالي من الكأس أيضا. أمّا الجزء الآخر وهو الأهم والمملوء فهو تجاهلنا للعمق الشعبي لأحزاب المحاصصّة الطائفيّة القومية. هنا قد يقول البعض بخطأ هذا الاستنتاج وقد يكون على حقّ، إلّا أنّ من حقنا أن يُثبت لنا هذا البعض سبب حصول نفس القوى السياسيّة المسؤولة عن دمار البلد على أصوات الناخبين العراقيين وهم يذهبون إلى صناديق الاقتراع كل مرّة؟

منح رجال الدين الحق في حسم الأمور السياسيّة اليوم يعني تفرّدهم بجميع القرارات السياسيّة بالبلاد مستقبلا، وهنا تكمن الخطورة

سيقال إنّ القانون الانتخابي غير عادل، هذا صحيح جدا. وإنّ المفوضيّة المستقلّة للانتخابات غير مستقلّة وغير نزيهة، هذا صحيح جدا. وإن المال السياسي يستخدم لشراء ذمم الناس، وهذا لا ريب فيه. وإنّ المحكمة الاتحادية تتحرك وفق أجندات حزبية، وهذا ما لا شكّ فيه. وإنّ للسلاح والفتاوى الدينية دوراً في توجيه الناخبين، وهذا ما لا يختلف عليه اثنان. كل ما ذكرناه أعلاه يعتبر وسائل أو آليات للديمقراطيّة، أمّا العناصر الأساسيّة للديمقراطيّة والتي نفتقدها في العراق، فهي غياب حريّة التعبير من خلال غياب أو تقنين الحريات الأساسية، وتغييب أو تقنين المشاركة السياسيّة لأحزاب وحركات من خارج منظومة أحزاب المحاصصة الطائفيّة القومية.

في عهد الدكتاتورية كانت السلطة بيد البعث ولم تكن هناك قوى سياسيّة داخليّة قادرة على التغيير، لا من خلال الآليات الديمقراطية لعدم إيمان السلطة بها ولا من خلال استخدام وسائل العنف، لقوّة السلطة وأجهزتها القمعيّة وأذرعها المسلّحة كالجيش والشرطة وفدائيي صدام والجيش الشعبي. ويبدو اليوم أنّ التاريخ يكرر تجربة النظام البعثي من جديد. فالقوى السياسيّة غير المؤمنة بنظام المحاصصة الطائفية القومية، غير قادرة على التغيير من خلال صناديق الاقتراع، لعدم توفر العناصر الأساسيّة للديمقراطية أي حريّة التعبير واستخدامها في توسيع قواعدها الجماهيرية، وبالتالي رفض القوى المهيمنة على مقاليد السلطة سنّ قوانين تسمح بأن يكون العراق ديمقراطياً بحق. وهي ليست قادرة على التغيير من خلال استخدام وسائل العنف لقوّة السلطة وأذرعها المسلّحة كالجيش والشرطة الاتحادية وقوات حفظ النظام والحشد الشعبي والميليشيات المسلّحة والعصابات والمافيات التي تديرها الأحزاب النافذة أيضاً. ولا عجب في ذلك، فالبعث وأحزاب المحاصصة وجميع الأحزاب والحركات السياسية العراقية هي نتاج مجتمعنا الغارق في الصراعات الطائفية والقومية.

الصراع السياسي الأخير في العراق كان أحد أطرافه التيار الصدري وزعيمه مقتدى الصدر وهو رجل دين، ويقال إنّ السيستاني هو من هدّأ الموقف بطلبه من الصدر إصدار أوامره لأنصاره بالعودة إلى بيوتهم، والسيستاني رجل دين أيضاً. وهناك من يثمّن مواقف الطرفين لنزع فتيل الأزمة وتهدئة الشارع، وهذا يعني أنّ لرجل الدين في العراق دوراً أكبر من المشاركة السياسية لتعزيز الديمقراطية وسيادة دولة القانون. فمجلس النواب العراقي “المنتخب” ورئاسة الوزراء ومعها الجمهوريّة، لا مكان لهم في تهدئة الشارع عند احتقانه. إنّ تثمين مواقف رجال الدين في مواقف سياسية كما في المشهد السياسي الأخير من قبل أحزاب ومنظمات ومثقفين وإن كان فعلا لنزع فتيل الأزمة وتهدئة الشارع، يعتبر تنازلاً طوعياً من الأحزاب والحركات المدافعة عن الديمقراطيّة ونتائج ذلك كارثيّة على المدى البعيد، هذا إن كانت هناك ديمقراطية فعلا في العراق.

منح رجال الدين الحق في حسم الأمور السياسيّة اليوم يعني تفرّدهم بجميع القرارات السياسيّة بالبلاد مستقبلا، وهنا تكمن الخطورة التي على الأحزاب والحركات السياسية ومنظمات المجتمع المدني المؤمنة فعلا ببناء نظام ديمقراطي حقيقي الانتباه لها، خصوصا وأنّ العراق تحت الوصاية الإيرانيّة وتدار شؤونه من طهران.

9