خطر يطال دول الوفرة والندرة العربية

تخطيء الدول الخليجية إذا تصورت أن الأزمات الاقتصادية التي تعصف بمصر ولبنان وتونس والأردن والسودان وغيرها سوف تكون تداعياتها بمنأى عنها، فالدول التي تملك فوائض مالية عليها عدم التواني عن تقديم مساعدات سخية بصيغ مختلفة لما يسمّى بدول الندرة، لأن الأزمات التي تزداد حدتها لن تتوقف نتائجها على أصحابها فقط، وقد تصطحب معها تداعيات تمتد إلى خارج حدودها.
مدت الأزمات الاقتصادية حبال الأمل لتيار الإسلام السياسي بعد أن مني بضربات قوية في السنوات الماضية، لعب فيها الدعم الخليجي دورا حال دون سقوط دولة مثل مصر في حجر جماعة الإخوان، والتي بدأت قياداتها تتهاوى في دول أخرى.
مع تنامي المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها دولة في حجم مصر بدأ صوت الإخوان يعلو ويبشر بثورة جديدة قريبا تعيدهم إلى السلطة، وباتت العلاقة قوية بين الأمل الذي يراود عقل الجماعة وبين التدهور الحاصل في الأوضاع الاقتصادية، والذي ارتفع مؤشره مع حدوث متغيرات عالمية أضيفت إلى المصاعب الداخلية، فكانت النتيجة ظهور بوادر إخفاق لدى الأنظمة الحاكمة على التصدي للتحديات الاقتصادية.
◘ سواء شاءت دول الوفرة أم أبت القيام بعملية دعم مناسبة لدول الندرة، فالتوصل إلى وسيلة لتخفيف عمق الأزمات الاقتصادية في الثانية والمحافظة على ثروات الأولى أصبح مطلبا عاجلا
يُعدُّ ترك دول المنطقة العربية الفقيرة من دون تدخل أو إسعاف سريع من دول الوفرة النفطية مسألة خطر، حيث يمنح تيار الإسلام السياسي فرصة للعودة إلى السلطة، وتتكشف ملامح سيناريو عرفنا خباياه من قبل، لكن هذه المرة قد تتم الاستفادة من الدروس والعبر للحيلولة دون تكرار السقوط السابق.
تتحمل دول الخليج جانبا مهما من النكبة التي يعيشها اليمن منذ جرى استبعاده من مشروع مجلس التعاون الخليجي في بداية الثمانينات من القرن الماضي، فقد تعملق الفقر وتغلغلت المشكلات في نسيج المجتمع، ما أوصل الحال في النهاية إلى تسليم السلطة في صنعاء إلى جماعة الحوثي التي تهدد الآن السعودية والإمارات، وفتحت الطريق أمام تمركز إيران في الخاصرة الجنوبية لدول الخليج العربي.
كما أن عدم تدارك دول الخليج لتداعيات الأزمة المالية العالمية على دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عام 2008 كان ضمن العوامل التي قادت المنطقة إلى نكبة الربيع العربي التي عزفت في جزء كبير منها على وتر الأزمات الاقتصادية وعدم قدرة حكام دول طالتها احتجاجات وثورات على تلبية الحد الأدنى لتطلعات المواطنين.
دولة غنية مثل ليبيا سقط نظامها بصورة درامية لأنه أخفق في المواءمة بين متطلبات السلطة وتوزيع الثروة، وبدا شعبها فقيرا مع أنه يملك موارد نفطية وغازية وفيرة.
اليوم تئن دول عديدة من غلاء المعيشة في وقت ترفل فيه الدول النفطية والمنتجة للغاز بعوائد غير مسبوقة، ما يجعل الفجوة كبيرة ولا تتوقف روافدها على الدول المنكوبة اقتصاديا وغير القادرة على تطوير اقتصادياتها أو تحتاج إلى المزيد من الوقت كي تسد العجز، وهو ما يصعب تحمله من قبل مواطنين يجدون شبح الغلاء أمامهم يطاردهم باستمرار، وتقف جماعات متربصة تحثهم على الانتقام من أصحاب الأموال، أشخاصا ودولا، وما اكتنزوه من أموال طائلة.
تبدو فكرة الاستثمار بدلا من المساعدات التي تتبناها الدول الخليجية في التعامل مع دول الندرة العربية وجيهة وجيدة ومفيدة على المدى البعيد. لكن هل لدى الدول الفقيرة وسكانها الوقت للانتظار إلى حين تبدأ الاستثمارات في إعطاء نتائجها، وهل البطون الجائعة قادرة على الصبر حتى تتمكن الحكومات من تلبية حاجاتها الأساسية؟
تشير الإجابة إلى أن صعوبة بالغة في الصبر وزيادة كبيرة في الرفض، بالتالي رفع حصص المعاناة والضغوط والغضب، وكلها عوامل يقود اتساع نطاقها إلى كوارث تتعدى الانتقام مباشرة من الأنظمة الحاكمة، فقد تصل إلى حد شيوع فوضى في منطقة لم تشف بعد من كارثتها السابقة، وتفشيل محاولات جارية لإعادة ترتيب أوراقها بطريقة تُوجِد نوعا من التعاون الإقليمي على قواعد جديدة.
على الرغم من أن معادلة الاستثمار بدلا من المعونات جذابة وخلاقة لدول خليجية وتحل الكثير من التناقضات في عملية عدم صرف المساعدات في أوجه صحيحة طوال الوقت، غير أنها لن تضمن الحصول على مردودات سياسية قوية.
فالدول المتلقية للاستثمار تتعرض لضغوط من الفقراء، وهؤلاء لن يمارسوا فضيلة القدرة على التحمل وربما سئموا تكرار ترديدها على مسامعهم بلا جدوى، ما يجعل هناك ضرورة لتمضي المعونات بالتوازي مع الاستثمارات، جنبا إلى جنب.
◘ يُعدُّ ترك دول المنطقة العربية الفقيرة من دون تدخل أو إسعاف سريع من دول الوفرة النفطية مسألة خطر، حيث يمنح تيار الإسلام السياسي فرصة للعودة إلى السلطة
يخلق التأكيد على فكرة الاستثمارات بلا معونات انطباعات سلبية على دول الوفرة والندرة، فالأولى تظهر كأنها تريد أن تستغل الفقر لصالح تحقيق مكاسب على حساب الثانية، وتتولى آلة الدعاية المعارضة تصوير الأمر على أنه استغلال أو “استعمار” جديد، وتنتقل المساهمة في تخفيف حدة الأزمات الاقتصادية إلى مربّع آخر، تخسر فيه دول الوفرة والندرة سياسيا، وتتأزم العلاقة بين الشعوب المتلقية والمانحة، وتجر معها ضغائن وحساسيات وتصفية حسابات يتضرر منها الجميع.
ولا يختلف حال الدول عن حال الشعوب، فلا يستطيع أن يعيش مواطنون في راحة بال وجزء كبير من جيرانهم والمحيط القريب منهم جوعان، وما لم تكن هناك آليات لتخفيف المعاناة وأدوات تمنع خروج الضغائن على السطح سوف يكون الأمر من الصعب أن يتحمله البعض من الحكام في دول الوفرة الخليجية التي لديها شبكة كبيرة من المصالح الإستراتيجية مع عدد من دول الندرة العربية.
من المهم البحث عن صيغة اقتصادية مرضية للطرفين، وإذا كان من حق دول الوفرة غلق صنبور المعونات وقتما تشاء ومن حق حكامها المحافظة على ثروات بلدانهم بالطريقة التي يرونها مناسبة، فعليهم تحمل ما يمكن أن يتسبب فيه انفجار براكين الغضب حولهم وما يفضي إليه من صعود جماعات متطرفة تصل إلى سدة السلطة في دول الندرة، حيث تتهيأ جماعة الإخوان لتسخين الأرض من تحت أقدام النظام المصري.
سواء شاءت دول الوفرة أم أبت القيام بعملية دعم مناسبة لدول الندرة، فالتوصل إلى وسيلة لتخفيف عمق الأزمات الاقتصادية في الثانية والمحافظة على ثروات الأولى أصبح مطلبا عاجلا، لأن الثيمة التي يمكن أن يلجأ إليها من يعملون على توظيف الفقر قد يحمّلون دول الوفرة مسؤوليته بعد تخليها عن الاستمرار في تقديم المساعدات.
وهناك من ألمحوا مؤخرا إلى شيء من هذا القبيل في محاولة لإعفاء الحكومات من مسؤولية تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية أو تخفيف الضغوط. ولذلك إذا ضمنت دول الوفرة مكر الشعوب عليها ألا تضمن مكر حكام الدول الفقيرة.