خطة تحصين الأقاليم المصرية من التهديدات تنجح في سد ثغرات منسية

الحكومة المصرية تحاول مواجهة قضية التهميش الذي يطال الكثير من المناطق في مصر وتشعر من خلاله بالفوارق بين الأغلبية التي تنتمي إلى الهامش ويسهل استقطاب أبنائها من الجماعات المتشددة، والأقلية الغنية. وبدأت المعالجة بتوسيع أنشطة التنمية إلى أبعد من المدن الكبرى، ما أرسى نوعا من الارتياح في المناطق المحرومة.
لم تكن الاحتفالية الضخمة التي رعتها الدولة المصرية الخميس الماضي لإعادة افتتتاح طريق الكباش بمدينة الأقصر ثقافية أو سياحية فقط، لأنها انطوت على رسائل أخرى عديدة تهم سكان المنطقة التي تقع في جنوب مصر فحواها أن الدولة لم تعد غافلة عنهم وخطة التطوير التي تقوم بها، أو التحصين بمعنى أدق، لن تستثني أي منطقة.
ويرى النظام المصري أن التحديات التي تواجه البلاد لا تقتصر على التهديدات الخارجية القادمة من الحدود الثلاثة، الشرقية والغربية والجنوبية، بل أضيفت إليها الشمالية بعد الوفرة الغازية في شرق البحر المتوسط والمناوشات التي يمكن أن تقوم بها قوى إقليمية جراء خلافات حول أطماع أو حدود بحرية.
ويتطلب هذا الوضع توفير تأمين عسكري بالمفهوم التقليدي، وهذا لا غضاضة فيه، فلدى جيش مصر الكثير من القدرات التي تؤهله للتعامل مع هذا النوع من التهديدات.
الخطوات الإيجابية نحو ما يسمى بالأطراف في مصر أثارت تساؤلات عدة حول الفورة الاقتصادية غير المعتادة التي يبديها النظام المصري بها، وكانت الإجابات تنحصر دوما في أهمية التنمية وتحسين مستوى المعيشة
ولم يكن ذلك هو التحدي الكبير الوحيد بالنسبة إلى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لأن هناك تحديات أخرى لا تقل خطورة وتتعلق بعملية سد الثغرات الداخلية التي تمثل منغصا قد يتحول إلى بركان فجأة، لأن التركيز على القاهرة، وما يسمى بمحافظات الوجه البحري، احتل أولوية لدى الأنظمة السابقة على حساب أخرى بدت منسية.
ويفرض ضبط المعادلة المختلة توازنا عاجلا بعد التيقن إلى المخاطر القادمة منها أو التي يمكن أن تأتي مستقبلا، فالتهميش جعل بعض أقاليم مصر رخوة وسهلة الاختراق من جانب تنظيمات إرهابية، وجهات من مصلحتها هز الثقة بين المركز والأطراف، وهو ما يفسر كثافة أعمال العنف التي شهدتها خلال السنوات الماضية.
وجاء التركيز السابق على العاصمة القاهرة والمناطق القريبة منها على حساب محافظات ومدن عديدة بعيدة، في سيناء شرقا ومرسى مطروح غربا والأقصر وأسوان جنوبا، ناهيك عن محافظات تقع في الشمال مثل دمياط وكفر الشيخ أصبحتا من أهم المناطق التي تخرج منها هجرات غير شرعية نحو أوروبا باتت تحرج الحكومة المصرية، أضيفت إليهما أهمية جديدة بعد زيادة اكتشافات الغاز في البحر المتوسط القريب من مناطق حيوية في هاتين المحافظتين.
وأثارت الخطوات الإيجابية نحو ما يسمى بالأطراف في مصر تساؤلات عدة حول الفورة الاقتصادية غير المعتادة التي يبديها النظام المصري بها، وكانت الإجابات تنحصر دوما في أهمية التنمية وتحسين مستوى المعيشة، ورغبة النظام في توظيف الموارد وتوزيعها بطريقة جيدة ضمن التوجهات العامة لبناء دولة عصرية.
لكن الجزء الغاطس في هذه المسألة أن سكان بعض الأطراف المصرية وصل بهم الحال في الفترة الأخيرة من حكم الرئيس الأسبق الراحل حسني مبارك أن شعروا بأنهم خارج اهتمام نظامه، وتركهم لقمة سائغة لتنظيم الإخوان وجماعات إرهابية استفادت من غياب وتغييب الكثير من مؤسسات الدولة وأدوارها الاجتماعية ونجحت في ترسيخ وجودها معنويا وماديا في صفوف قاعدة عريضة من المواطنين.
وانعكس هذا الأمر في أرقام العمليات الإرهابية المرتفعة التي حدثت في سيناء مثلا، وتزايد عدد العناصر المنخرطة في التنظيمات المتشددة، وتهريب الأسلحة والمتطرفين داخل البلاد، فقد استغلت الكثير من الجيوب المعطوبة اقتصاديا واجتماعيا ومدت خيوطها لاستقطاب عناصر متعددة مكنتها من ممارسة العنف على نطاق واسع.
وأخذ ما يقوم به النظام المصري شكلا أمنيا في البداية غالبا لتطويق التنظيمات المتشددة وحرمانها من البيئة الحاضنة لها، ثم انطوى تحت عباءة اقتصادية لتخفيف النقمة لدى قطاعات عريضة شعرت بالإهمال في مناطق مصرية لم تعد قادرة على استمرار كتمان غضبها من إهمال بعض أجهزة الدولة.
وتتعدى الطريقة التي يعمل بها النظام المصري في الوقت الراهن كل ذلك، وتوحي أن هناك خطة بعيدة المدى تريد تجنب تكرار ما حصل عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 وما تلاها من تداعيات بعد ثورة الثلاثين من يونيو 2013 وانكشاف عنف الإخوان، بما جعل سيناء ساحة حرب كادت تمتد إلى مدن عاشت فترة طويلة من التهميش بدرجات مختلفة.
وبدت مغريات التنمية والتوسع في العمران وتشييد الطرق والجسور لربط جميع أنحاء الدولة بشبكة ممهدة وتحسين مستوى معيشة السكان مدخلا لتأمين القواعد الشعبية من الاختراق، وإزالة الشعور بالفوارق واللاتوازن بين مناطق متعددة، ما جعل التنمية تأخذ شكلا أفقيا ولا تقتصر على النمط الرأسي السابق الذي استفادت منه القاهرة وما حولها وأخل بالعدالة التي يجب أن تقوم بها الدولة.
وظهرت ملامح الرضا مؤخرا على كثير من سكان الأطراف لأول مرة منذ فترة طويلة، وشعروا أن هناك رغبة رسمية في عدم تكرار سنوات الحرمان التي تمثلت في افتقارهم إلى كثير من المقومات الحياتية الجيدة التي تمكنهم من الإحساس بالمساواة في الخدمات بين سكان الشمال وسكان الجنوب.
ويستخدم المصريون دوما هذه المفردات للتعبير عن الفوارق الطبقية، فهناك أيضا صفات تطلق على العاملين في بعض الوظائف ويتم استخدام عبارة مؤسسات الشمال والجنوب، ورغم السخرية التي تحملها إلا أن الفحوى يعبر عن عدم المساواة.
وتشير الجهود المبذولة حاليا إلى سعي حثيث من جانب الدولة نحو العدالة والمساواة في التنمية وغيرها لتعويض ما جرى في الماضي من نقص فادح ومعالجة عقدة تسببت في أزمات متباينة، لكن المعنى النهائي لهذه الرؤية يدعم فكرة بناء الدولة من الداخل وسد ثغرات تمت الاستفادة منها في مراكمة التهديدات.
ولأن الطريقة التي يتم التعامل بها شاملة ولا تقتصر على منطقة أو إقليم معين، يرى الكثير من المراقبين أن ما تحمله يفوق عملية تأمين الجبهة الداخلية أو التوازن وما إلى ذلك من مهام تقع في صلب دور الدولة لا يخلو من مكونات استراتيجية لأن عملية خروج الأجهزة المصرية من غرفة الإفاقة الحرجة والتركيز على تصحيح أخطاء الماضي، عوامل تحمل نواة لتأسيس صورة جديدة للدولة في عيون مواطنيها.
ويتجاوز هذا التوجه عملية معالجة خلل أو غضب مكتوم أو حرمان بعض الجماعات المتطرفة من مزايا استفادت منها أو حتى منع شبح كان قريبا لتفتيت الدولة، فالتصورات والتصرفات التي تطرقت لكثير من القضايا المسكوت عنها تشير إلى أن النظام المصري يستعد لانطلاقة من أبجدياتها الرئيسية تمتين الجبهة الداخلية.
فلا تستطيع دولة توسيع نفوذها الإقليمي وهي تعاني من منغصات في الداخل أو يشعر أحد مكوناتها بالغبن، ما يفسر التركيز على مناطق أصبح لدى سكانها يقين أنهم كانوا خارج حسابات الدولة، كما هو الحال في منطقتي سيناء شرقا والنوبة جنوبا، لذلك بات ترميم الشروخ التاريخية في هاتين المنطقتين ضمن أولويات الدولة المصرية.
ولم تنكفئ مصر على ذاتها إلا وتكالبت عليها الأمم والأزمات، وتحولت الفرضية إلى حقيقة في نصف القرن الماضي وكادت تنتهي فصوله بكارثة ضياع دولة عمرها آلاف السنين.
ما يقوم به السيسي شكل من أشكال تمتين الجبهة الداخلية أكثر منه انكفاءة جديدة، لأن طبيعة مصر ترفض الانزواء، ومحاولة جادة لإعادة ترتيب الأوراق وتجنب أخطاء من سبقوه في عدم التوزان بين توسيع النفوذ في وقت كانت فيه الجبهة الداخلية غير محصنة جيدا أو بين من انصرفوا عن التمدد دون تحول حقيقي بالداخل.