خطأ المدينة الفاضلة

الجمعة 2016/06/24

لم تكُن زلّة اللّسان التي أوجدت “المدينة الفاضلة” زلّةَ لسان الحكمة، بل سراب الحالمين ولجلجة في ألسنتهم الدائخة. خطأ لغويّ أخرج الـ”يوتوبيا” من سياق جغرافيّتها التي تتجاوز الوجود المادي، من “اللّامكان” لتصبح -في تلعثم القول وثقل النطق- “المكانَ الأمثل”!

فهل كنّا، جميعا، نحن المتعطشين إلى جنّة أرضيّة، ضحيّة هذا الشّطط في العبارة وتلك اللثغة في الكلام، لتظل “الطوباويّة” بعيدة المنال، حبيسة فكرتها الحالمة؟

كان السّير توماس مور حين استخدم الكلمة، لأوّل مرّة قد نحتها من اللغة اليونانيّة في الكتاب الذي نشره في العام 1516، تحت عنوان “يوتوبيا Utopia”، واصفا ذلك المجتمع المثاليّ المتخيل الذي يعيش في جزيرة منعزلة في المحيط الأطلنطي. بيد أنّ هذه الكلمة التي جاء بها مور لم تكن تعني في جذرها اليونانيّ سوى “الأوتوبوس” -اللّامكان- وليست كلمة “Eutopia”، المشتقة من “الإيوتوبوس”، مكان الخير والسعادة الدائمة.

أدّى هذا التشوّش اللغويّ لدى الكثيرين إلى أن تصبح الكلمتان، في نهاية المطاف، مترادفتين للتعبير عن المجتمعات الطوباوية التي يسعى الإنسان إلى تشييدها في الواقع، أو تلك التي يعمّرها في خياله عبر روايات وصور وقصائد.

خطأ رفع الـ”طوبى” من ممالك الخيال المحض، فباتت “جمهورية” أفلاطون التي يحكمها الفلاسفة، ومدينة إله سانت أوغسطين، ومدينة شمس توماسو كامبانيلا، وأتلانتيس فرانسيس بيكون الجديدة، وعالم مارغريت كافنديش الساطع، مجرّد “ديستوبيات” في الواقع.

إنه زمن “الدّيستوبيا”؛ زمن المدينة الفاسدة، بلا منازع، الذي نعيش فيه الآن نخرج من عوالم روبنسون كروزو وصحائف تليماخوس ومدوّنات البشر الذين يشبهون الآلهة وأحلام النساء اللواتي على حافة الزمن في الفراديس البعيدة، لندخل عراة في ماكينة الزمن إلى جمهوريات الخوف والمنازل الجوانيّة، سائرين بكعوب من حديد تعلونا الغيمة القرمزيّة إلى الغد المجهول.

نخرج، وباب المدينة بليلها الأبدي لا يحرسه سوى سيربيروس، الوحش بهيئته الكلبيّة ورؤوسه الثلاثة، لندخل بأياد عاطلة إلى مزارع الحيوان، فنشهد قطع الرؤوس والحب بين الخرائب، صحبة تجّار الفضاء وسادة الذّباب، عابرين في نفق التهاويل السماويّة، تتبعنا الخادرات ورماة السهام، لنقطع الجبال البيضاء وبركة النار إلى مدائن الرصاص.

لا نصل إلى معسكر القديسين، بل إلى البرج المعتم وظلال الرمادي. إلى بيت العقرب وغابة الأسنان في ليلها المحرّم.

“اتبعوا دموعي، قال الشرطيّ” في سنة الطوفان، ولكننا آثرنا أن نقرأ يوميات الراكض بجانب الظلال ركضته الطويلة في بلدة الأشياء الأخيرة، وحوليات المسدّس في مواسم العظام وألعاب الجوعى.

لم نتبع دموع الشرطيّ، ولكننا عبرنا المتاهة؛ متاهة اللانهاية، نهذي بالأسماء التي نسيناها، ونرفع الذكريات على غصون الأشجار.

كان الأطلس قد أخرج المدينة الفاضلة من تضاريسه، لأنها بنت الأحلام وليست من صنع الأيدي. فهل كنّا نطارد الأوزة البريّة في مدينة الموتى الأحياء، أم كانت ليست أكثر من أحلام مشاة على أرصفة من دون شجر؟

كاتب من الأردن

14