خالد داوود معارض مصري لا يدخر جهدا في الدفاع عن الديمقراطية

القاهرة– تؤمن بعض الشخصيات العربية بالديمقراطية وأحقية المجتمع المدني في المشاركة السياسية والوصول إلى الحكم بأقصى مدى ممكن. قد تتغير التكتيكات مع تجارب الزمن والمحن التي تمر بها، لكن تبقى القناعات على حالها ويصعب أن تتبدل أو تتغير مهما طال الزمن. من هؤلاء الصحافي والسياسي المصري خالد داوود الذي يتحدث لمقربين منه بأنه لا يريد العودة إلى السجن مرة أخرى.
يردد داوود هذه العبارة على سبيل الجد تارة والسخرية تارة أخرى، لكن تصرّفاته السياسية الجديدة تؤكد أنه أكثر قربا للمعنى الأول، فهو من الشخصيات المعارضة التي حضرت حفل إفطار الأسرة المصرية الذي أقامه الرئيس عبدالفتاح السيسي في رمضان الماضي، والتقاه في حديث جانبي بدا وديا للغاية، ودعاه السيسي صحبة آخرين للمشاركة في الحوار الوطني الذي أطلقه الرئيس المصري في ذلك الوقت.
كان قبوله صحبة آخرين للدعوة، وبينهم المرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي، بداية لأول رصاصة رحمة يطلقها عليه مقربون منه، حيث اعتبروا موافقته على الحوار والمشاركة فيه أشبه بالتنازل السياسي لنظام تعرض على يديه داوود نفسه إلى السجن نحو عامين، من سبتمبر 2019 إلى أبريل 2021، بتهمة “مشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أهدافها، مع العلم بأغراضها المخالفة للقانون، ونشر وبث أخبار كاذبة”.
موافقته على الحوار والمشاركة فيه يعدهما البعض أشبه بالتنازل السياسي لنظام تعرض على يديه داوود نفسه إلى السجن نحو عامين، بتهمة "مشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أهدافها"
هامش سياسي
خرج داوود من السجن، وهو الذي تكونت لديه خبرة واسعة في مجالات الإعلام والسياسة والأنشطة الحقوقية والمدنية، كأنه عازم على التمسك بشعار “عدم العودة إليه”، ليس تغييرا في القناعات التي تبناها مبكرا تجاه ضرورة أن تأخذ مصر بناصية الديمقراطية، لكن انطلاقا من تراكمات الأيام والسنين التي جعلته أشد نضجا مما كان عليه، وأن هناك مساحة وهامشا سياسيا يمكن توظيفهما ليحولا دون العودة للسجن.
يحاول الرجل الذي عمل سنوات طويلة في جريدة ”الأهرام ويكلي“ الحكومية الناطقة بالإنجليزية وأستاذاً للإعلام بالجامعة الأميركية في القاهرة، الاستفادة من دعوة النظام المصري إلى حوار وطني شامل والبناء على الجانب الإيجابي فيها، على الرغم من تحفظات بعض قوى المعارضة على الآلية التي يسير بها الحوار حاليا.
يقول متابعون إن داوود ممن يريدون التغيير من الداخل أو المؤمنون بقاعدة “خذ وطالب” والاستفادة من الهامش السياسي المصاحب لأجواء الحوار الوطني بين الحكومة والمعارضة، أو حتى المثل المصري الشهير “امش جنب الحيط يحتار عدوّك فيك” أي لا تخرق القانون فتمنح خصمك فرصة للنيل منك.
بصرف النظر عن الدواعي التي قادته إلى أن يظهر قدرا من الليونة السياسية، أو البراغماتية في توصيف آخر، فهي لا تتناسب في مجملها مع تصوراته السابقة، إذ أصبح من العازمين على عدم توفير مبررات للحكومة لإعادة اعتقاله، وهي سمة لا تقتصر عليه فقط، فغالبية من أفرج عنهم بقرارات عفو مختلفة مؤخرا يميلون إلى الهدوء المفرط، وكل من أفرج عنهم الفترة الماضية يكاد يكون صوتهم في معارضة النظام المصري مختفيا تماما، باستثناءات ضئيلة.
قدم هنا وأخرى هناك
يشير أداء داوود العام إلى أنه وضع قدما مع الحكومة وأخرى مع المعارضة، وبات من فريق الأغلبية الذي يؤثر السلامة السياسية، وداخل هذا الفريق درجة رمادية تمكّن صاحبها من أن يكون معارضا بلا أنياب أو شراسة، وهي صيغة مقبولة حيث تريح صاحبها والنظام معا وتبعد كلاهما عن الاحتكاك بالآخر.
لا يعني وجود داوود ضمن هذا الفريق أنه تبدل أو تحول أو ارتدى ثوبا سياسيا جديدا، فكل تحرّكاته وصداقاته وكتاباته وتصريحاته تقبض على المحاور المركزية في مسألة الديمقراطية والحريات والمجتمع المدني، ما تغير هو الطريقة والأسلوب، فكل شخص قد يتعرض إلى تجارب توفر له درجة أعلى من الليونة المعنوية في خطابه.
يملك داوود سلسلة طويلة من الممارسة الإعلامية والسياسية وفرت له ذخيرة حية من النضخ والقدرة على التعامل مع الأحداث الحرجة، مصحوبة بعدم تقلب بين تيارات متصادمة، وساعده الابتعاد عن الإغراءات التي تعرض لها وعدم التنازل عن ثوابته أن يظل كما هو بلا تلون أو تقلب في نظر متابعيه، فلا أحد يستطيع أن يتهمه بالخروج عن قاموسه السياسي الذي ارتضاه منذ تخرجه في الجامعة الأميركية بالقاهرة، وعمله بالصحافة ثم الانزلاق إلى متاعب السياسة.
مال مبكرا إلى مبادئ اليسار بمسحة ليبرالية، وعصمه ذلك من أن يتحول إلى “دوغما”، أي إلى قالب فكري جامد، مثل الكثير من اليساريين في مصر، من الماركسيين والاشتراكيين الثوريين والناصريين، قد يكون وحدة مستقلة بذاتها تضم فئة محدودة من الشخصيات المؤمنة بالديمقراطية وثوابتها تنفتح على اليمين واليسار.
خيبة أمله في ثورة يناير بعد أن اختطفها الإخوان دفعته ليرى في رئيس هيئة الطاقة الذرية المصري محمد البرادعي نموذجا للسياسي المنحاز للمجتمع المدني
خليط من اليسار واليمين
من يفتش في توجهاته السياسية وقائمة أصدقائه يجده خليطا من اليسار واليمين، وفي أحيان قليلة يبدو منحازا إلى التيار الإسلامي من منطلق حق عناصره في ممارسة الحرية بلا عنف وإرهاب، وهي المعادلة التي وفرت له قاعدة إيجابية وسلبية أيضا.
أسهم انفتاحه الكبير على تيارات متباينة في أن يتمتع بعلاقات جيدة، وحرمه أيضا من أن يكون ابنا بارا لتيار محدد، وهو التوازن الذي جعل الحكومة المصرية تحتار في تصنيفه أحيانا، وساعده شخصيا على تبني المعادلة الجديدة التي يسير عليها الآن وتعتمد على أن قدرا من المرونة والتفهم مع النظام يصلح الكثير من الأمور.
ينحدر داوود المولود في يوليو 1967 من أسرة مثقفة في الطبقة الوسطى بمصر، مهمومة بالعمل العام والاشتباك معه، فوالده الصحافي السيد داوود، وشقيقه الأصغر إياد الذي رحل بعد مسيرة قصيرة واشتغل في الفن والإعلام، وعمل خالد مراسلا لجريدة الأهرام في واشنطن، ثم مراسلا لشبكة الجزيرة في نيويورك.
يحفل الجانب السياسي بسيرة طويلة، فهو من الوجوه التي بزغت قبل ثورة يناير 2011 والتي تؤمن بأهمية الدور الذي يلعبه المجتمع المدني، وعاصر الكثير من التطورات في مواجهة نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، وفي أثناء وجوده للعمل من واشنطن ونيويورك لم يكن منفصلا عن الحياة السياسية في مصر، ونجا من مقصلة المؤامرة التي رفعت لاحقا في وجه الكثير ممن عارضوا نظام مبارك.
خاب أمله في ثورة يناير بعد أن اختطفها الإخوان وشرعوا في ترتيب الأوضاع بما يتناسب مع هدفهم في التمكين، ووجد في رئيس هيئة الطاقة الذرية المصري محمد البرادعي نموذجا للسياسي المنحاز للمجتمع المدني، حيث عاد الرجل إلى القاهرة وكان أيقونة في نظر البعض وعنصرا مهما في تفاعلات الثورة المصرية في يناير 2011 وحتى فترة قليلة بعد ثورة الثلاثين من يونيو 2013.
تداعيات الثورة الثانية
خلال المسافة بين هاتين الثورتين انخرط خالد داوود في العمل السياسي أكثر من الإعلامي، وانضم إلى حزب الدستور الذي أسسه محمد البرادعي، وعندما اشتد خلاف القوى المدنية مع جماعة الإخوان بعد وصول الرئيس محمد مرسي إلى الحكم تشكل ما عرف بـ”جبهة الإنقاذ”، وهي موزاييك سياسي تكوّن من أحزاب يسارية وليبرالية وقوى مدنية بهدف الإطاحة بجماعة الإخوان.
اكتسب داوود خبرة كبيرة من عمله كمتحدث باسم جبهة الإنقاذ، وكان أشبه بحلقة وصل بين نخبتها والصحافة الأجنبية لإجادته التحدث بالإنجليزية، واقتنع بأهمية اقتلاع الإخوان، لكن الموقف الفارق الذي جعله يستقيل منها قبل أن تتفكك الجبهة هو فض أجهزة الأمن المصري اعتصامي الإخوان في ميداني رابعة العدوية والنهضة في الرابع عشر من أغسطس 2013 بالقوة عقب مناشدات عديدة لإنهاء الاعتصام لم تستجب لها قيادات الإخوان بغرض تحويل الفض إلى مظلومية جديدة.
برر استقالته برفضه استخدام العنف المفرط في فض الاعتصامين، بعدها حدث ما يشبه القطيعة بينه وبين النظام المصري منذ تولي الرئيس السيسي الحكم في منتصف 2014 وحتى اعتقاله في سبتمبر 2019، وهي الفترة التي يمكن القول إنها شهدت الكثير من الزخم والمعارضة في مسيرة خالد داوود السياسية.
تبنى الصحافي المصري خطابا ”زاعقا“ ضد النظام المصري من منطلق قناعته بضرورة الأخذ بالديمقراطية ورفض الاعتقالات، والإفراج عن جميع المحبوسين على ذمة قضايا رأي وحريات، وزادت الحدة مع توليه رئاسة حزب الدستور الذي انفضت عنه الكثير من القيادات بعد أن وفرت له حيوية عقب تأسيسه على يد البرادعي.
يبدو أن داوود حاول أن يقتفي أثر معلمه وملهمه السياسي البرادعي، غير أن الفروق الشاسعة بينهما لم تمكنه من القيام بالدور ذاته، كما أن الفضاء المصري العام الذي حدثت فيه تغيرات جعلت هذه المسألة مستحيلة، ومهما كانت ملكات وإمكانيات داوود الشخصية كبيرة ومروحته الإعلامية والثقافية والسياسية واسعة، فالتبدل الذي حصل في الأجواء قاده إلى أن يغرد مع قلة لن تساعده على التأثير السياسي.
خطابه "الزاعق" زادت حدته مع توليه رئاسة حزب الدستور الذي انفضت عنه الكثير من القيادات
معادلة حزبية مزدوجة
كانت تجربة السجن فارقة في حياته، إذ بدأ التغيير في تصوراته السياسية ينعكس مباشرة عليه بين رفاقه، حيث خاض الانتخابات على رئاسة حزب الدستور أمام الإعلامية جميلة إسماعيل وخسرها، في إشارة ألمحت إلى تراجع شعبيته وسط مئات قليلة من أعضاء الحزب شاركوا في هذه الانتخابات، والتي أدت نتيجتها إلى إعلانه عن استقالته ثم تراجعه عن الاستقالة نزولا عند رغبة أصدقائه في الحزب.
كشفت الاستقالة أو التلويح بها، ثم الإعلان عن التراجع المسافة البراغماتية في عقل داوود الذي يرفض الاعتراف بالخسارة السياسية، فيلجأ إلى حيلة الاستعانة بسلاح المرونة، ومع ذلك فمجرد التفكير في الاستقالة حوى مضمونا يشير إلى ما هو أكبر من التشكيك في نزاهة الانتخابات يتعلق بقدر من الازدواجية يصفه البعض بها، حيث بدا كأنه يؤمن بالديمقراطية لأبعد مدى ويرفض العمل بها شخصيا.
ضمنت له العودة إلى صفوف حزب الدستور، ولو من دون تفاعل كبير داخل جدرانه، حفظ ماء الوجه من إلصاق تهمة التناقض به، لأن الاستقالة في حالته هذه كانت ستعد خطيئة سياسية تحمّله فوق طاقته، مع ذلك لا أحد يستطيع التقليل من دوره في الدفاع عن الديمقراطية وإن تغيرت أدواته، وسوف تظل صيغته نموذجا للمعارض الذي يقبل النظام المصري التجاوب معه الفترة المقبلة.