خافيير إشيفاريا منظمة كاثوليكية محافظة تعمل تحت شعار "مقدس هو الألم"

باريس- مات خافيير إشيفاريا. قضى بعدوى في الرئة، لا أكثر. غادر عالمنا عن عمر ناهز الـ84 عاماً. وأعلنت وفاته يوم الاثنين الـ12 من ديسمبر 2016، في أحد مستشفيات العاصمة الإيطالية روما. حسبما أفادت المتحدثة باسم “أوبوس داي” الألمانية هارتفيج بويلون. إشيفاريا زعيم حركة دينية تعتبر اليوم من أكثر الحركات إثارة للتساؤلات داخل المجمع الكاثوليكي. “أوبوس داي” أو بحسب الترجمة العربية، “عمل الرب”، إسبانية المولد كزعيمها وكمؤسسها أيضا. حركة دينية تلقى انتشاراً واسعاً في العالم الإسباني وأميركا اللاتينية. يراها الكثيرون بأنها حركة دينية سرية تتمتع بنفوذ سياسي واقتصادي كبير.
ألفا كاهن
تلقي نظرة على أرقام الحركة وممتلكاتها وأعضائها فتزداد ريبة حولها. تضم في عضويتها أكثر من تسعين ألفاً، منهم أكثر من ألفي كاهن. البقية من العلمانيين بحسب وصف الحركة لهم عبر موقعها الإلكتروني الذي يصدر أيضا بنسخة عربية كغالبية الحركات الدينية المسيحية التبشيرية. يوازي عدد النساء الرجال في الحركة، رغم أن بدايتها كانت ذكورية صرفة منعت انضمام النساء إليها.
تغير حال الحركة بعد رسالة وصلت زعيمها خوسيماريا إسكريفا من الرب مباشرة يخبره بأنه لا ضير في انضمام النساء لعمل الرب. اتسع نفوذ الحركة مع الوقت وتطور على خطى الأب المؤسس الأسقف الذي بات قديساً. توفي المعلم المؤسس عام 1975 وبقيت كلماته تتكرر في كل صلاة لأعضاء الحركة وأشهر ما قاله “الألم جيد”. يعيدها تلاميذه بما يعرف عن الحركة بصلاة التعذيب الجسدي الذاتي، والذي شطح فيها خيالاً كاتب رواية شيفرة دافنشي دان براون.
لكن كيف لحركة “الألم جيد” أن تملك اليوم العشرات من المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية. تدير العشرات من البيوت الطلابية والمراكز الثقافي والجامعات والمدارس العليا. أعضاؤها يملكون أو يديرون العشرات من القنوات الإذاعية والوكالات الإخبارية ومتنفذون في عالم الإعلام بكل صنوفه وضروبه. وصل بعضهم إلى مناصب عليا كوزراء في إسبانيا أو إيطاليا ودخلوا المجالات العلمية والبحثية في العديد من الدول.
كيف لمنظمة “عمل الرب” هذه التي تقول عن نفسها في رسالتها التبشيرية والروحانية بأنها تتبع الكنيسة الكاثوليكية، إيماناً وعقيدة، وتتبع الفهم الكاثوليكي للديانة المسيحية المرتكز على الطهر والعفة والإخلاص للرب والكنيسة، ولها كلّ هذا السرد الإيماني، بأن تستحيل تقريبا مؤسسة دنيوية واسعة الأملاك والنفوذ بحسب الكثير من الأبحاث التي أجريت حولها؟
رسالة تصل إلى زعيمها خوسيماريا إسكريفا من الرب مباشرة يخبره فيها بأنه لا ضير من انضمام النساء إلى المنظمة، ما يجعل نفوذ الحركة يتسع مع الوقت ويتطور مع خطى الأب المؤسس الأسقف الذي بات قديسا
وصفها البعض من المؤمنين بنظريات المؤامرة بـ”المافيا الدينية” نظراً لثقل الحركة في البلدان الناطقة بالإسبانية. ربما يكون الوصف محقاً بعض الشيء، لكن لو حاولنا فهم الحركات التبشيرية المسيحية وكل الحركات المسيحية الرهبانية بالذات لوجدنا أن معظمها يملك العشرات من المؤسسات في بقاع الأرض مشارقها ومغاربها.
وبنظرة سريعة على البلاد المشرقية كفلسطين وسوريا ولبنان تجد العشرات من المدارس الرهبانية التابعة لحركات تبشيرية ورسولية كثيرة، منها على سبيل الذكر لا الحصر “اليسوعية والفرنسيسكان والبندكتيون”. وفي شمال أفريقيا نجد حركة الرهبان البيض وغيرها من الحركات الرهبانية والتبشيرية في العالم. بعض هذه الحركات نال شهرة واسعة كحال اليسوعية، التي عرفت بميلها العقلاني ورهبانها النخبويين والمثقفين وبالذات في المشرق العربي حيث انتشرت الحركة وكان بين صفوفها العشرات من المستشرقين.
الطريق
إذن ربما تكون حركة “أوبوس داي” حركة رهبانية تبشيرية دينية فقط لا غير، وربما لا. لكن هذا لا يمنع وصفها بالحركة الدينية المحافظة. حركة تلزم أعضاءها بطاعة الجماعة العمياء كأحد النذور التي يقدّمها الرهبان عادة ولكن الطاعة الرهبانية تكون لله. وجاء المَخرج سريعاً فطاعة الجماعة هي طاعة الله. أين مر علينا هكذا كلام؟ أيّ التوجهات الدينية العالمية اليوم تحمل ذات الميل؟ هل سمعنا هكذا قناعات في صفوف الإسلاميين المتطرفين مثلاً؟
|
بكل تأكيد عليك إذا أردت إدارة جماعة والسيطرة عليها بأن تقنعها بإلهية كل فعل وعمل وقول يصدر عن الجماعة أو المعلّم. كان الأمر منذ البداية في حركة “عمل الرب” على هذا الحال. المعلّم المؤسس قال بأن الرب خاطبه وطلب منه عملاً ما. تبين لاحقا لخوسيماريا بأن الطلب هو تأسيس “عمل الرب” على الأرض. هكذا ولدت الحركة عام 1928 في إسبانيا.
بعد حوالي عشرين عاماً قرر أسقف مدريد الاعتراف بالجمعية على أنها مؤسسة مسيحية ورسّم قساوسة من أعضائها، عام 1943. نالت الحركة اعتراف الفاتيكان كليا عام 1961. ورسّم البابا جون بول الثاني أسقفاً من أعضائها. عام 1982 أعلنها البابا يوحنا بولس الثاني حبرية شخصية، أي أن كل أعضاء الحركة في العالم يتبعون لقيادة الحركة بشكل مباشر دون المرور بالأسقفيات والأبرشيات المحلية الجغرافية.
إذن باتت حركة صاحب مقولة “مقدس هو الألم، محبوب هو الألم، ومقدم على غيره هو الألم، ممجد هو الألم”، حركة دينية كاثوليكية معترفا بها رسمياً. هذه العبارة من كتاب المعلم والمؤسس والذي يحمل عنوان “الطريق”. ما أشبه الحركات الدينية في ميلها القسري والتوجيهي، “معالم على الطريق” للسيد قطب، من باب الذكر لا أكثر.
كلهم يقولون بأن الله اصطفاهم ليكونوا رسله الأبرار على أرض تصير بعد حين مزرعة لهم. هنا يفتتحون مدرسة وهناك كنيسة جديدة وفي البعيد جامعة وفي أرض يباب بور يعلنون عن مشروع زراعي عبر شركة أحد الأعضاء. هكذا هي الحركات الضاغطة في العالم تتمركز وتدير المفاصل الرئيسية في حياة الناس لتكون هي أول ما يفكّرون فيه ويحمونه.
الزواج مؤسسة الله، الزواج قُدس الحياة هكذا تمرر الحركة رسالتها لأعضائها العلمانيين، ليحافظوا على حياتهم الأسرية. بالمقابل يقدمون طاعتهم العمياء للجماعة الدينية التي ينتمون إليها. يطبقون ما يقوله كتابهم “أطع ليس فقط بشفتيك ولكن بقلبك وعقلك معا، فأنت عندما تطيع الجماعة لا تطيع إنسانا ولكنك تطيع الرب ذاته”. كيف لا وهذه الحركة بطريقة أو بأخرى تعطيهم فرصة الحياة المشتركة والتعاون مع الآخرين وخلق المزيد من الفرص.
|
هي شبكة اجتماعية واسعة تضمّ في عضويتها مدراء مصارف ورؤساء جامعات ووزراء وأعضاء برلمان وموظفين كبارا. كيف لك أن تجمع كل هؤلاء بين ثنايا جماعة تطيع بعضها بعضاً وأن تقول بأنها ليست إلا حركة دينية فقط.
تبقى بجانبها الإداري رهبانية ودينية. يرأسها إكليروس من الكهنة يعتبرون أعضاء متفرغين للحركة. هي دينية النشأة والاستمرار وتنال قدرتها وقوتها من اعتراف ودعم الكرسي البابوي. توفي مؤسس الحركة وخلفه ألفارو دل بورتيللو، فكانت فترة استمرار الحركة وتقدمها. وبعد اعتراف البابا بالحركة كحركة حبرية شخصية، نال بورتيللو مقام الحبر العام لحركة “عمل الرب”. جاء بعده خافيير إشيفاريا وفي السادس من نوفمبر عام 2002، وبحضور حشود كبيرة من الحجاج وسط ساحة القديس بطرس، رسّم البابا يوحنا الثاني مؤسس الحركة خوسيماريا إسكريفا قديساً.
أين يعمل الرب
أين تقام أعمال الرب؟ بين عباده وعلى أرضه. لذا انتشرت حركة “عمل الرب” بشكل واسع في معظم الدول الأوروبية وفي أميركا اللاتينية وأفريقيا. لا توجد بلاد مسيحية تقريبا لا وجود للحركة فيها. أكثر من خمسين دولة في العالم تنتشر فيها حركة “عمل الرب” في كافة المجالات المالية والسياسية والثقافية والفكرية. لكن ثقلها الواضح في إيطاليا وإسبانيا بالذات ويقع مركزها الدولي في روما.
ترأسها الأسقف إشيفاريا، الإسباني المولد وتسلم زعامته عام 1994. بقي زعيمها حتى وفاته كغيره من معلّمي الحركة السابقين، ويتوقع اليوم استلام فيرناندو أوكاريزا مهام الأسقف بشكل مؤقت لحين انتخاب المجلس الكنسي لحبر جديد يقود الحركة. عمل الرب في أرضه مستمر سراً أو علانية. بنفوذ محمل الرغبات الدينية أو دونه. يستمر انتشار هذه الحركات المدعومة دينيا. فهل يوجد أكثر من الدين حاملاً لمثل هذه القوى في العالم. هل يوجد استمرار دون إيمان؟ ولكن هل هذا حقاً عمل الرب؟