حيَّ على الفساد

لا أدري من هو مؤسس فِكرة مُقايضة الحُرية والإفلات من السِجن مُقابل تسليم المال المنهوب أو البعض منه إلى الحكومة في العراق.
فكرة غاية في الفذلكة والحرفنة لا تعدو كونها تشجيعا على السرقة والنهب تحت شعار اسرق ثم اسرق حتى تُتخم بالمليارات أو تكتفي، وحتى ليس شرطا أن يكون الاكتفاء، ولا تخشى في الفساد فضيحة ولومة لائم أو حتى خِشية قانون لأنه في نهاية المطاف ستتم مُقايضة فسادك ببعض المال المنهوب مُقابل إطلاق سراحك.
صفقة تبدو رابحة ومُثمرة بالنسبة إلى أولئك السُرّاق واللصوص في استعادة دورة حياة الفساد والنهب في كل مرة بعد أن أمِنوا العِقاب المُفترض إنزاله بهم.
◘ استيقظ العراقيون صباحا على فضيحة فساد كُبرى لا يتقنها إلا مُحترفون تُقدّر بالمليارات كان أبطالها رجال سُلطة وسماسرة ومسؤولين مهووسين بالنهب العام
حتى الشرائع السماوية والقوانين الوضعية والأديان التي يؤمنون بها تقرّ بِمُعاقبة السارق لِتصل إلى قطع يده لو تم إمساكه بالجُرم المشهود، لكن قانون الجُرم المشهود في العراق هو مُكافأة السارق بتسليم ما يمكن الاستغناء عنه مُقابل عدم وقوفه خلف قُضبان السجن.
من المؤكد أنها دعوة بالغة بأسلوب مُنمّق يدعو إلى مُعاودة السرقة لاسترجاع ذلك المال الذي تم تسليمه إلى خزائن الدولة وربما بأصفار مُضاعفة.
فُرصة ذهبية أتيحت للسُرّاق والنُّهاب للاستيلاء على المال العام بكل ما أتوا به من نفوذ وقوة وانقضاض.
في الأمثال قالوا “عِش رَجَبا ترى عَجَبا”. لكن العراقيين عاشوا جميع أشهر السنة الهجرية ورأوا العجائب والغرائب من حكايات الفساد وفنونه.
فرضيات غريبة وقانون أغرب لا تُعرف بيئته أو مصدره سوى في العراق لتبرير الفساد والنهب.
ضاع على الشعب حق تقرير عقوبة الحق العام على السارق الذي يثبت تورطه في السرقة كما هو معروف في دهاليز القانون وأروقة القضاء، وهو الحق الذي يبقى ماثلا حيث لا يُمكن العفو أو التنازل عنه حين غاب وقوف اللصوص وراء قضبان زنازين السجون.
فرضية العفو عن السارق أو الفاسد مُقابل تسليمه جزءا من المال المنهوب سردية مكشوفة لتأطير الفساد أو حتى للتشجيع عليه لا تصلح إلا لِكبار اللصوص أو السُرّاق أو الحيتان كما يُسميهم البعض من مساكين الشعب، أما تلك الأسماك الصغيرة تكون المسألة فيها نظر.
شرعنة واضحة للفساد وأبوابه وطريقة مُثلى للإفلات من العِقاب أوجدتها منظومة سياسية فاسدة تتقاذف فيما بينها كُرات الفساد، تُحاول أن تتبادل الأدوار أو حتى بالسكوت والتغاضي المُتبادل بين المُتسابقين لِنيل أكبر ما يُمكن من المغانم والمال المنهوب.
◘ فرضية العفو عن السارق أو الفاسد مُقابل تسليمه جزءا من المال المنهوب سردية مكشوفة لتأطير الفساد أو حتى للتشجيع عليه لا تصلح إلا لِكبار اللصوص
الفساد أصبح ثقافة في العراق لا يُرى بالعين المُجرّدة، له إستراتيجيات مُخيفة وطُرق يتم سلوكها والسير على خُطاها، أساليب مُبرمجة تُتيح للسارق أن يخرج من جريمته كما تخرج “الشعرة من العجين” كما يقول المثل الشعبي.
ويبقى الشعب مُتفرجا أو شاهدا على أرقام مليارية خيالية مهدورة تُسرق من بطون الجِياع الفارغة وتنفُض جيوب المُعدمين لتستقر في أرصدة ومزارع وقصور وشقق فارهة لأولئك الذين أجادوا فن السرقة والفساد وبَرِعوا فيه حيث لا رادع لهم لأنهم يعلمون أن في نهاية المطاف ستتم المُقايضة، وتلك هي الصفقة الرابحة التي تَشد على أيديهم وتجعلهم يتمادون في الغيَّ.
استيقظ العراقيون صباحا على فضيحة فساد كُبرى لا يتقنها إلا مُحترفون تُقدّر بالمليارات كان أبطالها رجال سُلطة وسماسرة ومسؤولين مهووسين بالنهب العام، صفقة سُميّتْ بـ”سَرِقة القَرن” لِعِظم الفساد فيها وضخامة المال المنهوب تقاذفت فيها التُهم بين مسؤولين سابقين وحاليين وتناثرت المليارات بين الشركاء، في حين غابتْ الصدمة عن وجوه العراقيين وهم يُشاهدون خيرات بلدهم المنهوب لأنهم يعرفون يقينا أن هذه السرقة هي قطرة في بحر سرقات وطنهم المنكوب ويُدركون أن غدا سيحمل لهم سرقة جديدة بوجوه وعناوين جديدة وربما نفس الوجوه، لكن ما يُدهشهم أن عقاب اللصوص كان باسترجاع ما يُمكن الاستغناء عنه من مالٍ مسروق مُقابل الحُريّة من السجن، ذلك من ينطبق عليهم “من أمِنَ العِقاب زاد في الفساد”، حقا عاش الفساد.