حين تتحوّل القوة إلى رعب والرعب إلى خسارة إستراتيجية

مهما بدا المشهد العسكري محتدما بين إيران والعدو الصهيوني، فإن النتائج النهائية، بقراءة عقلانية وباردة، ستصب في مصلحة تل أبيب. السبب بسيط وعميق في آنٍ معًا: إسرائيل تخوض حربًا لها فيها هدف إستراتيجي واضح ومحدد، بينما إيران تُقاتل في الظلام، بالضجيج أكثر من الدقة، وبالرعب أكثر من الفعالية التدميرية.
الهدف الإسرائيلي يتمثل في تدمير كل ما يرتبط بمشروع إيران النووي، من معامل ومفاعلات ومخازن ووسائط نقل، إلى العلماء والقيادات والكوادر المرتبطة ببرنامج التسلح النووي. كما تشمل أهدافها البنية التحتية الحيوية التي يمكن أن ترفد هذا المشروع، كالقواعد الجوية والبحرية والموانئ والمطارات ومراكز القيادة والسيطرة. هذا هدف حربي واضح، يُدار بتخطيط استخباراتي وتقني عالٍ، وتنفيذه يتم عبر ضربات دقيقة بالطائرات الحربية، والمسيّرات عالية الكفاءة، والصواريخ الذكية، وكل ذلك بدعم استخباراتي ولوجيستي كامل من الولايات المتحدة.
الرعب لا يهزم الدول. والهتاف لا يبني الردع. ومن يُريد أن يُقاتل كيانًا مثل إسرائيل، عليه أن يُقاتل بوضوح الهدف، لا بكثافة الصوت. فالتاريخ لا يذكر من أطلق أكثر، بل من أصاب أعمق
في المقابل، لا يبدو أن إيران تمتلك هدفًا حربيًا مركزيًا واضحًا. خياراتها محصورة، وتكتيكها يقوم على “حرب الرعب” بإطلاق أعداد كبيرة من الصواريخ والطائرات المُسيّرة على المدن المكتظة داخل إسرائيل، لإرباك الجبهة الداخلية وبث الذعر. وهذا بالفعل يخلق مشهدًا دراميًا: سماء إسرائيل تمتلئ بالصواريخ والمضادات، وصفّارات الإنذار تدوّي بلا توقف. لكن، هل تكفي صورة الرعب لتحقيق نصر إستراتيجي؟ الحقيقة أن الرعب وحده لا يصنع النصر، ولا يقلب موازين القوة.
بمقارنة الإمكانيات، فإن هذه الحرب محكومة بأن تكون قصيرة، لأن إيران تفتقر إلى عناصر الاستمرارية:
- لا تمتلك إيران قوات برية يمكنها الوصول إلى حدود فلسطين المحتلة.
- لم تعد لها ذراعٌ برية مؤثرة بعد انكشاف أوراق حزب الله، واستنزافه في سوريا، وفقدانه لعدد من قياداته، وتردّد طهران في الزجّ بلبنان في مواجهة كبرى.
- لم يعد بمقدورها استخدام المجال الجوي السوري كما في السابق، بسبب سيطرة روسية – إسرائيلية على خطوط الملاحة الجوية.
أما الجانب الإسرائيلي، فهو يقاتل بأريحية:
- طيران يعمل في مسرح عمليات مفتوح، دون تهديد جوي حقيقي.
- منظومات دفاع جوي متعددة (القبة الحديدية، مقلاع داوود، حيتس 2 و3) قادرة على اعتراض نسبة كبيرة من الهجمات.
هذه الحرب، التي يراها البعض انتقامًا أو استعراضًا للقوة، قد تتحوّل إلى فخّ استنزاف طويل لإيران نفسها، تُستدرج إليه تدريجيًا، لتُستنزف عسكريًا، وتُعزل سياسيًا، وتُحاصر اقتصاديًا
- دعم أميركي كامل بالمعلومات والمراقبة عبر الأقمار الصناعية، والتحليل الاستخباراتي الفوري.
- احتياطي من الأسلحة والمخزون الإستراتيجي تُمولّه الدول العربية الحليفة ضمن محور “الردع الإيراني”.
حتى لو قُدّر أن لدى إيران 20 ألف صاروخ، فإن نسبة كبيرة منها قصيرة المدى أو غير دقيقة، والمُسيّرات تعتمد على تغطية إلكترونية وإحداثيات ميدانية يصعب الحفاظ عليها مع اشتداد الحرب. أما الصواريخ الباليستية بعيدة المدى، فهي تُطلق في موجات محدودة وتُعترض على نطاق واسع، وبعضها ينحرف عن مساره ليسقط في أراضي دول مجاورة، ما يُضعف الأثر العسكري ويزيد الكلفة السياسية.
إسرائيل لا تعتمد على كثافة النيران، بل على دقتها، وعلى تدمير القدرات الإستراتيجية التي لا تُعوّض بسهولة. أما إيران، فتعتمد على التهويل، واستنزاف العدو نفسيًا، وليس شلّه فعليًا. ورغم مشاهد النيران في سماء فلسطين المحتلة، تبقى الكفّة العسكرية راجحة لصالح تل أبيب، لأنها ببساطة تخطط وفق جدول أهداف إستراتيجي واضح، بينما تُقاتل طهران كمن يُطلق الرصاص في الظلام.
لا يُقاس النصر بوهج الصواريخ، ولا تُصنع الهيبة من عدد المُسيّرات. فالحرب، كما السياسة، لا ترحم من لا يعرف أين يضع قدميه، ولا تغفر لمن يكتفي بإخافة العدو دون أن يُوجعه. إسرائيل، بكل قبحها ودمويتها، تُدير معركتها بعقل إستراتيجي بارد، بينما تُصرّ إيران على إدارة معركة وجودية بمنطق استعراضي وعقائدي، يهدر فيه الوقت والذخيرة، وتربح عناوين الأخبار فقط، لا المعارك.
والأخطر من ذلك، أن هذه الحرب، التي يراها البعض انتقامًا أو استعراضًا للقوة، قد تتحوّل إلى فخّ استنزاف طويل لإيران نفسها، تُستدرج إليه تدريجيًا، لتُستنزف عسكريًا، وتُعزل سياسيًا، وتُحاصر اقتصاديًا، ثم تُترك وحدها أمام جبهات مفتوحة وأحلاف مُغلقة.
الرعب لا يهزم الدول. والهتاف لا يبني الردع. ومن يُريد أن يُقاتل كيانًا مثل إسرائيل، عليه أن يُقاتل بوضوح الهدف، لا بكثافة الصوت. فالتاريخ لا يذكر من أطلق أكثر، بل من أصاب أعمق. وإن لم تدرك طهران ذلك، فستنتهي المعركة بصمت.. ولكن على أنقاضها.