حيرة المصريين بين القبول بارتفاع الأسعار وفقدان الاستقرار

الحكومة المصرية تلعب على متلازمة زيادة أسعار السلع والخدمات وفقدان الاستقرار، ونجحت في ترسيخها في وجدان قطاعات عديدة.
الأحد 2024/10/20
زيادات متعددة دون احتجاج

تلجأ الحكومة المصرية لتمرير إجراءاتها لرفع أسعار السلع والخدمات دائما إلى التلميح بأنها وسيلة للحفاظ على الأمن والاستقرار، وتكررت هذه المسألة يوم الجمعة عندما زادت أسعار الوقود للمرة الثالثة في غضون عام، فاحتار الكثيرون بين الصمت وكتم الغيظ والقبول بالأمر الواقع وبين الضجر والتذمر والرفض، ووجد غالبيتهم أن الطريق الأول هو الأكثر أمانا، فقد اعتادوا على الأزمة الاقتصادية وتكيفوا مع تبعاتها، والتي لم تفارقهم منذ سنوات طويلة، بعد أن شعروا بخطورة الطريق الثاني.

تحدثت بائعة عجوز معي بعد سماعها خبر رفع أسعار الوقود وما يعقبه تلقائيا من زيادات في أسعار سلع أخرى بنبرة مليئة بالحزن، لكنها لا تخلو من حمد على نعمة الأمن التي تعيشها مصر، وعددت أسماء الدول التي تهدمت وتعيش حالة صراعية مزمنة، ومع أنها لا تعلم ما هي العلاقة بين زيادة الأسعار وبين الأمن، إلا أنها بدت مقتنعة بالخوف الذي يروّجه إعلاميون يتبنون قرارات الحكومة، واكتفت بما حوته من طمأنينة بالشكل الذي يريحها مؤقتا ويطفئ الغضب داخلها، وهي على يقين أن أيّ انزعاج تظهره وغيرها لن يثني الحكومة عن المضي قدما في خطواتها.

تلعب الحكومة المصرية على متلازمة زيادة أسعار السلع والخدمات وفقدان الاستقرار، ونجحت في ترسيخها في وجدان قطاعات عديدة، لذلك تصدر قراراتها وهي مرتاحة، ويدها غير مرتعشة كما كان سابقا، حيث تتردد في الإقدام على أي زيادة طفيفة وعلى مراحل متباعدة، خشية رد فعل متذمر أو احتجاج شعبي يحرجها.

وتظهر معالم الثقة حاليا في جانبين، الأول: المتوالية السريعة التي تزيد بها الحكومة الأسعار من دون توضيح مقنع، وتكاد لا تستثني سلعة رئيسية أو هامشية، والثاني: ارتفاع معدل الزيادة في السلع كافة، وتبريرها بزيادات عالمية مبتورة، مع أن حدوث انخفاض فيها لا يؤثر على أيّ سلعة إيجابا، فما تأخذه الحكومة يصعب استرداده.

عندما تحدث رئيس الحكومة عن اقتصاد الحرب، كان الهدف حث الناس على قبول التقشف وزيادات الأسعار
عندما تحدث رئيس الحكومة عن اقتصاد الحرب، كان الهدف حث الناس على قبول التقشف وزيادات الأسعار

تلجأ السلطات في مصر إلى جعل المواطنين في حالة متواصلة من الضغوط المتتابعة، سواء أكانوا ظالمين أو مظلومين، ودائما ما تطرب لتحميلهم مسؤولية الأزمة الاقتصادية المتشعبة التي تعيشها البلاد، فهم في نظرها يستهلكون سلعا ترفيهية بكثافة، ولا يجيدون حسن تدبير أمورهم المادية، وحمّلت تصرفاتهم الحياتية المختلة ارتفاع سعر الدولار بسبب زيادة الاستيراد في سلع يمكن الاستغناء عنها.

وتتعمد عدم الحديث عن إجراءاتها الاقتصادية التي يتحمل جزء منها الأزمة الراهنة، إذ أسرفت في بعض المشروعات القومية والتنموية ذات المردودات البعيدة، ولم تحدد أولوياتها بدقة وتشرح تفاصيلها، معتقدة أن توجهاتها لا يأتيها الباطل أبدا، وغير معنية بمكافحة الفساد بالصورة التي تمنح المواطنين ثقة في تصرفاتها الاقتصادية، وتؤكد لهم أنها عازمة على اجتثاث جذوره، وهي النقطة التي يمكن أن تكسبها شعبية كبيرة.

يعلم المواطن المصري البسيط الخلل الحاصل في معادلة الحكومة الاقتصادية ولا يريد أن يواجهها، ويكتفي بالحديث عنها بينه وبين نفسه أو مع من حوله من الأصدقاء والأقارب، فقد تسبب خطاب الحكومة بشأن ضرورة الحفاظ على الأمن والاستقرار في عقدة للكثيرين، تزداد حساسيتها كلما نظر أحدهم عن يمينه فوجد سودانيين يجوبون شوارع القاهرة أو غيرهم من جنسيات عربية اضطرتهم التوترات للذهاب إلى مصر.

في هذه اللحظة يتذكر حكمة الحكومة، والتي لا تزال تحافظ على الدولة وتعصمها من مواجهة مصير مجهول تمر به دول مجاورة، فيقبل بأيّ زيادة في الأسعار، ويبدي استعدادا لقبول المزيد منها الفترة المقبلة، فلا يملك حيلة رفض قرارات الحكومة.

تبدو المقارنة التي تستخدمها وسائل إعلام تابعة للحكومة ونشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي حول مقارنة أسعار الوقود في مصر بدول أخرى غير دقيقة، لأنها لا تأخذ في حسبانها مستوى الدخل في الدول محل المقارنة وتتجاهل الزيادات المستمرة في الدخل المادي للأفراد التي تكفي لسد جزء معتبر من الزيادة في أسعار السلع، وهذا لا تقوم به الحكومة المصرية بشكل مناسب.

في مصر، تقفز الأسعار بنسبة توازي أضعاف أيّ ارتفاع في المرتبات، كما أن الزيادات في الأسعار تمضي مثل الأرنب في قفزاته السّريعة، بينما تسير المرتبات مثل السلحفاة، مع ذلك يقبل غالبية المواطنين بالثانية، طالما أنها لن تهز الاستقرار.

تصلح ازدواجية الأرنب والسلحفاة للتعبير عن آليات تعامل الحكومة مع المصريين وتفسّر جوانب عديدة من تصرفاتها اللامنطقية، فهي ترى أنها تعمل بسرعة في مشروعات مختلفة بينما شريحة كبيرة من الشعب كسالى، وتزرع الأرض طولا وعرضا تنمية والناس تنتظر جني مكاسب فقط، وتقوم بإطعام أكثر من مئة مليون نسمة، معظمهم لا يقومون بما هو واجب عليهم، ووصل لوم السلطة للمواطنين مستوى أنهم لن يفهموا أهمية ما تقوم به إلا بعد عشرات السنين.

uu

كان بإمكانها أن تفهمهم حالا الحقيقة وسوف يستوعبونها بسهولة، فهم شعب ذكي ولمّاح وعلى استعداد لتكبد المزيد من التضحيات ويصبر طالما أن خطاب السلطة مقنع، لكنها تأبى ذلك وكأنها تستمتع بحيرتهم أو تجد فيها مكاسب سياسية خفية.

عندما تحدث رئيس الحكومة مصطفى مدبولي مؤخرا عن اقتصاد الحرب، كان الهدف حث الناس على قبول التقشف والزيادات المنتظرة في الأسعار، ولم يعدهم بالرفاهية، أو يطلق وعودا براقة في الهواء، لكنه تعرض للانتقادات لأن مصر تعيش في دوامة اقتصاد الحرب منذ سنوات بلا حرب وقبل أن يظهر شبح انفجار الصراع المحتدم في المنطقة، ما يعني أن الأمور الاقتصادية ستشهد المزيد من التعقيدات، وعلى المواطنين تحمل كل تداعياتها القاتمة حفاظا على الاستقرار، وباتت هذه الكلمة (الاستقرار) هي المفتاح لتمرير قرارات اقتصادية وغير اقتصادية، كما أن لها سحرا سلبيا كبيرا في التأثير على مشاعر الناس، فعندما يسمعونها يتحسسون جيوبهم على الفور.

انتهت حيرة المصريين تقريبا بالنسبة إلى زيادة الأسعار وفقدان الاستقرار، وأصبح التسليم بالثنائية من طقوس الحياة اليومية، ولم يعد الكثيرون يعبأون بأيّ قرارات اتخذتها الحكومة أو سوف تتخذها لاحقا، ووجدوا في وضع العهدة كاملة في يد السلطة طريقا آمنا لهم، على اعتبار أنها أدرى بشؤون دنياهم، وربما آخرتهم.

تكمن المشكلة في الإرث المعروف عن المصريين أنهم شعب لا أحد يعرف له كتالوجا محددا، ومهما ادعت السلطة أنها تملك شفرته، ففي لحظة معينة قد تتغير هذه الشفرة وتكتشف أنها لا تعلم شيئا عنه، ما يعني أن اللعب على وتر الحفاظ على الاستقرار ممكن أن يكون مقنعا أو مفهوما أو مقبولا الآن، لكنه ربما يصبح مرفوضا التسليم به دائما، ما لم تقدّم الحكومة ما يساوي تضحيات الناس ليتحملوا سياساتها.

4