حيرة الفلسطينيين بين الكفاح المسلح والكفاح السلمي

الفلسطينيون يصارعون إسرائيل بعنادهم وبالتضحية بأرواح شبابهم وبعواطفهم أكثر مما يصارعونها وفق استراتيجية كفاحية.
الاثنين 2018/05/21
استراتيجية الكفاح

أثارت الهبة الشعبية الفلسطينية في قطاع غزة، التي استمرت طوال الأسابيع الأربعة المـاضية، والتي اتفق على تسميتها بمسيرات “العودة”، النقاشات حول الخيارات الكفاحية التي يفترض بالفلسطينيين انتهاجها لاستعادة حقوقهم، ولا سيما أن هذه الهبّة أسفرت عن مصرع العشرات، ضمنهم 65 فلسطينيا، وإصـابة عدة ألـوف منهم برصاص الجيش الإسرائيلي من دون تحقيق إنجازات سياسية معينة.

على ذلك فإن النقاش الذي فرض نفسه بقوة وبصخب، عن جدوى الكفاح الشعبي السلمي، باعتبار أن هذا الخيار لا يحرر شبرا من فلسطين، وأنه لا يمكن له مقاومة إسرائيل إلا بالسلاح، هو كلام صحيح في كل الأحوال، إلا أن السؤال ناقص، إذ أنه يستدعي سؤالا آخرا، هو المتعلق بجدوى الكفاح المسلح في التجربة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، ولا سيما أننا نتحدث هنا عن تجربة عمرها أكثر من نصف قرن (منذ 1965). مثلا فهل حرر الكفاح المسلح الفلسطيني شبرا من فلسطين؟ ثم إذا كانت المقاومة بالسلاح فأي سلاح هذا الذي يملكه الفلسطينيون حقا، إذا استثنينا مجرد أسلحة فردية؟ وهل لديهم مصادر تسلح بالقياس لإسرائيل؟ أو هل يملكون حدودا مع دول أخرى تمكنهم من ذلك، على نحو ما كان لفيتنام أو الجزائر؟

وباختصار فإن هكذا كلام يفيد بأن الفلسطينيين يواجهون وضعا بالغ التعقيد، وأن موازين القوى بينهم وبين إسرائيل مختلة بشكل كبير، وأن المعطيات الدولية والعربية لا تسير لصالحهم، وهذا ما يفسر، بين أسباب أخرى، أنهم لم يستطيعوا شيئا إزاء إسرائيل، رغم كل التضحيات والبطولات التي بذلوها طوال قرن من الكفاح، ورغم أنهم استخدموا كافة أشكال المقاومة، السلمية والمسلحة، الشعبية والعسكرية، ورغم أنهم سلكوا طريق الانتفاضة والمفاوضة، وكأن الفلسطينيين كتب عليهم عدم القدرة على استثمار أي شكل كفاحي، أو كأنه كتب عليهم أن يكونوا مجرد ضحايا لعنف إسرائيل وعدوانها وظلمها.

طبعا قد يثور هنا سؤال عن انسحاب إسرائيل من غزة عام 2005، بيد أنه يفترض التمعن في هذا الأمر، إذ أن ذلك الانسحاب أتى في إطار استراتيجيتها الخاصة المتمثلة بالتخلص من عبء السيطرة على مليوني فلسطيني في القطاع، والتحرر ممّا يسمى القنبلة الديموغرافية، وفي إطار سعيها للحفاظ على ذاتها كدولة يهودية، هذا من دون أن نجحف بالدور الذي لعبه فلسطينيو القطاع في مقاومة إسرائيل. المعنى أن انسحاب إسرائيل من القطاع لا يعني أن فلسطينيي الضفة كانوا أقل منهم في المقاومة، بواقع أن خسائر إسرائيل البشرية نتيجة عمليات المقاومة المسلحة في الضفة أكبر بكثير منها في قطاع غزة، ناهيك عن العبء الأمني الذي يشكله فلسطينيو الضفة على إسرائيل، ما يرجح الفرضية التي ذكرناها.

وبصورة أكثر تحديدا، فإن هبة مسيرات العودة، وقبلها هبات القدس، تنطوي على روح وطنية واستعداد عال للتضحية، بيد أن معضلة هبة القطاع أنها لم تكن شاملة، إذ لم يكن الوضع مناسبا، في ظل الإحباط السائد في مجتمعات الفلسطينيين، وفي ظل حال الاستقطاب أو الانقسام والخلاف الداخلي الفلسطيني بين سلطتي حركتي حماس في غزة وفتح في الضفة، إضافة إلى تدهور أحوال المشرق العربي، وهي كلها لم تشجع مجتمعات الفلسطينيين على الانخراط في هذا الحراك رغم التعاطف معه، والذي تجلى على نحو أكثر بروزا في المظاهرات التي شهدتها مدينة حيفا. هذا الوضع يفيد بطرح الملاحظات الآتية:

أولا؛ إن شعب فلسطين ليس بحاجة كل يوم لإثبات وطنيته واستعداده العالي للتضحية، فهذا حصل ولا يزال منذ أكثر من قرن.

ثانيا؛ المشكلة أن الفلسطينيين يصارعون إسرائيل بعنادهم وبالتضحية بأرواح شبابهم وبعواطفهم أكثر مما يصارعونها وفق استراتيجية كفاحية، في أشكال مناسبة ووفق إمكانياتهم وقدرتهم على التحمل، ووفق قراءة للظروف المحيطة.

ثالثا؛ إن إسرائيل استطاعت طوال الفترة الماضية امتصاص كل الأشكال النضالية التي استخدمها الفلسطينيون، واستيعابها وتحويلها إلى عبء عليهم أو تحميلهم أثمانا باهظة تجاهها. هكذا مثلا تم تحويل الانتفاضة الثانية إلى كارثة على الفلسطينيين، مع الإمعان في تهويد القدس والجدار الفاصل والنقاط الاستيطانية والحواجز. وهكذا تم تحويل أسلحة حماس وقـواتها وسلطتها في غزة إلى مشكلة داخلية لها ولعموم الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية، حتى إضراب العمال في الانتفاضة الأولى تم تحويله إلى سلاح ضدهم بمنع إسرائيل العمال من العمل داخلها، واستجلابها عمالا من أوروبا الشرقية.

رابعا؛ الفكرة الأساسية هنا أن كفاح الفلسطينيين لا يتجلى فقط في مواجهة إسرائيل، وإنما يتجلى أيضا وأساسا، في بناء مجتمعاتهم وكياناتهم السياسية والاقتصادية والثقافية، وصوغ إجماعاتهم السياسية وتعزيز الهوية الوطنية، إذ ثمة مشكلة كبيرة أو نقص كبير على هذا الصعيد.

هذا في العموم أما بخصوص الحراك في غزة فما يجب ملاحظته، أولا أن هذا الحراك، على أهميته، يحتاج إلى إجماع وطني، فهذا لم يحصل فلسطينيا، ليس لأن الفلسطينيين الآخرين ليسوا وطنيين وإنما لأن إجماعهم مضروب وكياناتهم هشة، حتى في غزة تبين أن ثمة مشكلة كبيرة في التعاطي مع الأمر. ثانيا من الضروري الانتباه لعدم تحميل غزة أكثر مما تحتمل في حصارها، أما الغضب ممّا يجري لغزة، عبر الحصار والإفقار وافتقاد الأمل، فلا يكفي وحده لإطلاق طاقة نضالية تحتاج إلى الكثير من المتطلبات. ثالثا ما يجب الانتباه إليه أن الوضع العربي لا يعمل لصالح الفلسطينيين أكثر من أي وقت مضى، ويخشى في هذه الظروف أن تستغل إسرائيل الوضع الراهن وتقوم بشيء خطير ضد الفلسطينيين في غزة أو القدس أو الجليل أو الخليل، فلنتصور أن العالم سمح أو سكت عن تهجير الملايين من السوريين وقتل مئات الألوف منهم، لذا فلنتصور ما الذي يمكن أن تفعله إسرائيل في هذه الظروف. رابعا، المشكلة أن حركة حماس ركبت الحراك الشبابي السلمي وأزاحت النشطاء الذين بادروا إليه وفق منهجية معينة، بدلا من ترك الحراك للسير في دينامياته الشعبية. أخيرا ثمة قول لحنا آرندت عن العنف والكفاح السلمي تفيد فيه أن ظاهرة النضال السلمي عند غاندي، ما كان لها أن تتطور وأن تنجح لو كانت في مواجهة أنظمة يقودها ستالين أو هتلر، وهذا ينطبق على إسرائيل، التي يمكن أن تستخدم أي شيء لوأد كل ما تعتبره تهديدا لوجودها.

9