حول حقوق الخناث
ظل السيد (س) يحمل اسماً مذكرا إلى أن بلغ سنّ الخامسة والستين، يحمله عنوة ويتحمّله كالعبء الثقيل. لم يكن حاله حال ذكر في الواقع، ولا كان حال أنثى في المقابل، فقد كان من وجهة نظر منطق الثنائية الجنسية شخصا محايدا خارج أي تحديد، ما يخرق منطق أرسطو ثنائي القيم: إمّا وإمّا. غير أنّ الخرق ليس الأول من نوعه وليس الأخير، فمنذ وجد الإنسان وُجد ملايين المواليد دون تحديد جنسي، خناث. غير أن الوعي الحقوقي المعاصر جعل النقاش ينحو منحى جديداً.
عندما وُلد السيد (س) كان المجتمع والدّولة والقانون في فرنسا، وأسوة بما تفعله سائر المجتمعات الحديثة والقديمة على حد سواء، يضعون الأسرة أمام خيارين لا ثالث لهما: إما تسجيل المولود ضمن خانة الذكور أو تسجيله ضمن خانة الإناث، مع السّماح بتأجيل تسجيل الخناث، وبنحو مؤقت، لغاية التمكن من توجيههم نحو جنس محدّد، سواء بالأدوية أو بالجراحة الاستئصالية في الكثير من الأحيان. غير أن وجهة نظر الأطباء تتجه اليوم نحو الاعتراف بأن نزع أعضاء حيوية للخنثى مثل معالم القضيب أو الفرج الصغير أو الرحم أو الخصيتين فقط لكي يندرج الشخص ضمن خانة تفرض عليه عنوة وبلا سبب معقول، مجرّد عنف مجاني لا تستدعيه أي ضرورة طبية ولا تقتضيه أي اعتبارات طبيعية ولا يحقق أي نتائج مجدية، وإنما قد يجعل حياة الشخص أكثر تعقيداً.
لقد حُشر السيد (س) في خانة المذكر، وتحمل هذا الدّور الاجتماعي الذي لم يكن يلائم وضعه وميوله. ولأن دور الأنثى أيضا لم يكن يلائم وضعه وميوله، فقد قرر مؤخراً أن يضع حدا لكذبة رافقته طوال حياته. وهكذا رفع دعوى في إحدى المحاكم (بمدينة تور الفرنسية) مطالبا بإنصافه وتسجيله ضمن خانة ثالثة هي الأصدق تعبيرا عن حاله وكينونته، لا ذكر ولا أنثى، إنما خنثى. المشكلة الإدارية أن هذه الخانة الثالثة غير موجودة في سجلات الحالة المدنية، ولذلك تطلّب الأمر رفع دعوى قضائية. في الأخير، وبعد مرافعات ومداولات طويلة، أصدرت المحكمة حكمها النهائي والقاضي بإعادة تسجيل السيد (س) ضمن خانة ثالثة، “محايد جنسي”. لعلها بوادر وعي حقوقي جديد يعترف بأنّ الخنثى ليس أمام خيارين إثنين، الذكورة أو الأنوثة، وإنما هو أمام خيار واحد: أن يكون هو هو، وأن يتصالح مع نفسه على هذا الأساس. لكن الرهان امتحان للوعي المجتمعي بأكمله. ولأنّ التفكير لا يتوقف، والأسئلة الجذرية لا تتوقف، فهناك من يتساءل الآن: لم لا يتم إلغاء خانة التحديد الجنسي من بطاقات التعريف وجوازات السفر البيومترية، أسوة بإلغاء خانة المهنة، وقبلها خانة الديانة؟ هذه الأسئلة ليست شكلية، لكنها تدعم مبدأ المساواة في الفرص. ومن المصادفات الجميلة أن اللغة العربية تتضمن أسماء يشترك فيها كلا الجنسين، ولا تثير لحامليها أي حساسية.
في كل الأحوال فقد فُتح النقاش الآن حول حقوق الخِناث. وهذا دليل آخر على ما سبق أن قاله هابرماس: الحداثة مشروع لا ينتهي. ولعل الذي يجعلها كذلك أن الإنسان نفسه مشروع لم يكتمل بعد، والمطلوب أن نحرص على عدم إجهاض هذا المشروع.