حمورابي يلاحقني في شوارع سيئول!

حين التقيت برلمانيًّا كوريًّا جنوبيّا في سول العاصمة، التي نسمّيها نحن بإصرار سيئول، قال لي بأنكم من الشعوب الذكية التي تمكنت من أن تبتكر الشرائع والقوانين، وأول من ابتكر العجلة، وسن الشرائع، وراح يحدثني طويلاً عن حمورابي، وإنجازاته للبشرية، ويردد نصوص قوانينه التي قال عنها إنها المحاولة الأولى للتشريع الذي أسس للعدالة، وقال لي بعدها إننا سنريكم غداً شيئاً لم تروه من قبل.
وأنا أجوب الحصن الحصين لكوريا الجنوبية مصفى SK الذي كرمني الكوريون برؤيته من الداخل ذهلت من دقة هذا المنجز البشري لكثرة تلافيف الأنابيب وتنوعها والتي قال عنها أحد المهندسين بأنها توفر خمسة منتجات نفطية مباشرة وتوصلها إلى مراكزها في الأقاليم عبر الأنابيب التي تجوب المدن الكورية ولا تحتاج إلى صهاريج نقل، ولكني تذاكيت عليه سائلاً ألا تخشون الزلازل؟
قال حسبْنا حسابها لدرجة سبعة على مقياس ريختر، وأردف بأن الـSK هذا المصفى العملاق يصنف واحداً من أعظم مصافي العالم وأكبرها ويوفر منتجات لمئتين وخمسين مليون إنسان في كوريا وجنوب الصين، وأن نفطه مستورد من الشرق الأوسط.
كانت كوريا الجنوبية تحاول الوصول إلى مستوى التطور في العراق في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، سألت ذلك البرلماني ما سر تفوقكم وتراجعنا؟ قال: يعزى تطورنا إلى أمرين؛ إرادة الشعب الذي أدرك مشكلته مبكراً، بأنه يحتاج إلى التعليم، كما ساهمت الأمهات الكوريات بقص شعورهنّ وعملن باروكات لتصديرها والإنفاق على أولادهن في الغرب، والثاني اكتساب الخبرة من الأميركان وتحمل وجودهم الثقيل حتى نفاد وقت اتفاقية الجلاء من البلاد، بتفهم مجتمعي كامل كي نحصل على التكنولوجيا والحماية في آن واحد، وكنا نسابق الزمن لاكتساب المهارات، أما تراجعكم فأنت من تجيبني عليه لأنكم تملكون كل شيء للتقدم والنمو، ويساعدكم النفط والمعادن الكثيرة في بلدكم.
بعدها دعاني وصديقين عراقيين رافقاني إلى بيته في ضيافة أسرته الصغيرة وكان المترجم من طلاب الطب العراقيين في سول، دهشت لبساطة شقته والحرص على خلع الأحذية خارج المنزل، والجلوس قبالة طاولة الطعام الخشبية “تخته” القريبة من الأفواه الجائعة، أعلمنا بأنه أجرى بحثا قبل أن يعد الوليمة عن عاداتنا الغذائية لكي يقوم بواجب الضيافة، وكان طعاما من ألذ ما أكلت في حوار مع أسرته الكريمة.
حين غادرت أدركت أن السر في تطور كوريا الجنوبية ليس التكنولوجيا فحسب بل الأخلاق والنزاهة وتحمل الآخر والانتباه لرغبات الناس، إنه شعب يتبع الفكر الأخلاقي والتواضع البوذي، وعالم اليوغا التي تعلمهم الصبر والقوة، وذلك الطموح الكبير بأن يصلوا إلى مجاراة شعوب عريقة وضخمة من حولهم كالصين واليابان.