حلم العودة المؤجّل للموريسكيين

صعود "الفوكس" لا يبشر بخير في إسبانيا لأنه ينظر له كمحاولة لإحياء العهد الفرنكوي، غير أن جوانب كثيرة من خطابه المعلن تتفق مع هوى الغالبية من الإسبان.
الأحد 2019/05/05
حزب "الفوكس" يعود ليرفع اليوم الشعارات القديمة ذاتها "للريكونكيستا"

لم ينجح حزب فوكس اليميني في إحراز الأغلبية في البرلمان الإسباني لكنه نجح في كسب الزخم وإدارة دفة السياسة في إسبانيا بقواعد لعب جديدة. وهذا الكسب لا يقل أهمية عما أحرزته الحركات اليمينية في أرجاء أوروبا بل إن صداه يتجاوز الإقليم الإسباني ليضع بالأخص الموريسكيين الإسبان في الشتات أمام نكسة جديدة.

في شمال تونس ومناطقها الغربية كما في دول أخرى جنوب المتوسط، هناك أندلس أخرى. ففي مدينة سليمان التي شيّدها الأندلسيون الفارون بحياتهم من محاكم التفتيش قبل أربعة قرون، يوجد جامع ومطحنة مطابقين لما هو موجود في إشبيلية بينما حافظت الأحياء السكنية المنتشرة في المدينة القديمة على معمارها الأندلسي الإسباني.

يتوارث الأندلسيون المهجرون والملقبون بالموريكسيين، في سليمان وتستور وحتى لدى بعض العائلات في المدينة العتيقة بالعاصمة، الألقاب الإسبانية ذاتها مثل “الرايشيكو” و”الماظور” كما يتوارثون عادات الأكل والمفردات الإسبانية.

كان الاعتقاد السائد لدى المهجرين الأوائل من الأندلسيين بعد صدور القرار الملكي بالطرد النهائي إثر معارك “الريكونكيستا” (حروب الاستعادة)، أنهم سيبقون برهة ليعودوا بعد ذلك إلى وطنهم الأصلي إثر تحريره لكن البرهة تحولت إلى عقود ثم إلى قرون ليبقى حلم العودة مؤجلا إلى اليوم.

بل إن الأجيال اللاحقة لأحفاد الموريسكيين الفارين لم يسلموا حتى في وطنهم الجديد في المهجر من أذى الإسبان أثناء الحملات الدموية على الحاضرة (مدينة تونس). يذكر المؤرخون أنها كانت الأسوأ والأكثر فظاعة من حيث التقتيل والتخريب والبطش طيلة فترة الاحتلال التي استمرت لأربعين عاما قبل أن يطردهم العثمانيون نهائيا في العام 1574.

يعود حزب “الفوكس” الذي بدأ أولى مفاجآته الانتخابية في إقليم الأندلس بالذات، ليرفع اليوم الشعارات القديمة ذاتها “للريكونكيستا”، والهدف استعادة إسبانيا من المهاجرين والمسلمين، وهي نغمة أصبحت منتشرة مثل الفقاع في وسط وغرب أوروبا لتصل إلى دول الأطراف التي تتقاسم تاريخيا الإرث الحضاري المتوسطي مع دول الجنوب.

صعود “الفوكس” لا يبشر بخير في إسبانيا لأنه ينظر له كمحاولة لإحياء العهد الفرنكوي، غير أن جوانب كثيرة من خطابه المعلن تتفق مع هوى الغالبية من الإسبان مثل إلغاء الحكم المستقل للأقاليم وهو موجه أساسا ضد الدعوات الانفصالية، والمطالبة بالسيادة على جبل طارق الخاضع لبريطانيا وإعلاء الرموز الوطنية بما في ذلك التاج الملكي.

لكن “فوكس” يدس في نفس الوقت السم في العسل إذ يدعو بشكل صريح إلى ترحيل جميع المهاجرين غير الشرعيين أو ممن فشلوا في الاندماج والتأكيد على مسيحية الدولة، وتعليق نظام شينغن للتنقل بين دول الاتحاد ومطالبة المغرب بالاعتراف الكامل بسبتة ومليلية كمدينتين إسبانيتين إلى جانب مطالب أخرى غريبة ومتطرفة كإلغاء قانون العنف ضد المرأة ومنع الاجهاض وحماية مصارعة الثيران والصيد.

قد لا يكون الحزب مؤثرا في تشكيل الحكومة الائتلافية مع حصوله على 24 مقعدا فقط في البرلمان من بين 350 مقعدا غير أن فوزه الرمزي أيقظ الأصوات القديمة من زمن الجنرال فرانكو ليرفع الحرج عن النقاش العلني بشأن المهاجرين والدولة القومية. وهذا بحد ذاته يعد مكسبا مهما في سياسة المراحل التي يتبعها الحزب.

لكن على الضفة المقابلة فإن هذا الزحف اليميني المتطرف يعد خطوة إلى الوراء للمنحى التصالحي الرسمي للدولة خلال العقد الأخير بشأن المسألة الموريسكية والنقاش الدائر حول “التصالح مع الذاكرة التاريخية”، وهو منحى بدأ يتخذ خطوات جدية لإقرار اعتذار رسمي للموريسكيين لاسيما مع إعلان الحكومة الإسبانية لاعتذار سابق عن طرد اليهود والإبادات التي ارتكبت بحق الهنود الحمر في المستعمرات القديمة.

كانت هناك خطوة جريئة في هذا الاتجاه عندما طرح الاشتراكيون في العام 2009 مشروع قانون للاعتذار بمناسبة مرور أربعمئة عام من صدور قانون الطرد النهائي من جميع أقاليم إسبانيا الكاثوليكية في عهد الملك فيليب الثالث عام 1609. ولكن مشروع القانون لم يتجاوز النقاش العام واحتفالية الذكرى في المؤتمرات العلمية والأكاديمية آنذاك ليبقى منسيا في الرفوف.

كما أن المؤتمر الذي نظمته “مؤسسة التميمي للبحث العلمي” بهذه المناسبة في تونس، ووجهت خلاله الدعوة إلى العاهل الإسباني الملك خوان كارلوس، أملا في أن يقدم اعتذار الدولة الإسبانية، أسوة بما فعله مع أحفاد اليهود السفارديم، انتهى بمجرد إيفاده من يقرأ عنه رسالة تقر بأن إسبانيا تغيرت لكنها لم تتضمن أي اعتذار.

في مطلق الأحوال فإن غياب الاعتذار الرسمي حتى اليوم لا يمكن أن يحجب المسألة الموريكسية التي تلطخ التاريخ الإسباني، بل إنها تزداد رسوخا مع تقدم بحوث المؤرخين في هذا المجال.

تشير دراسات حديثة في إسبانيا مثلا إلى أن حملات الطرد لم تنجح بشكل نهائي في استئصال الموريسكيين لأن أعدادا كبيرة من المسلمين نجحوا في تفادي محاكم التفتيش والتفوا على شروط البقاء لاسيما في القرى البعيدة النائية حيث أمكن لهم هناك أن يتوارثوا جيلا بعد جيل دينهم وعاداتهم الثقافية، وهو اتجاه يبدو أكثر موضوعية وقد برز بشكل خاص خارج إسبانيا مع المؤرخ البريطاني تريفور دادسون.

وهذه حقيقة لا يمكن أن ينكرها اليوم الإسبان وخاصة من اليمينيين وأنصار “الريكونكيستا”، لأنه مثلا وبمجرد التصديق على قانون الحرية الدينية بعد سقوط حكم فرانكو عام 1975 أشهر الآلاف من الإسبان ديانتهم الإسلامية الأصلية دون خوف أو وجل.

ومع ذلك وبرغم الانفتاح الديني مع بناء الحكم الديمقراطي فإنه ثمة ظاهرة ظلت متجذرة لدى النخبة السياسية والفكرية في إسبانيا، وهي أن المسألة الموريسكية أبقت على حالة دائمة من الانفصام الإسباني الذي يعلي من جهة من موروث الأندلسيين في العمارة والعلوم والعادات الثقافية لكنه يتناول بتحفظ كبير حملات التشريد والإبادة الجماعية ومسألة الاعتذار وحق العودة للأجيال الجديدة ورد الممتلكات لأصحابها.

4