حكومة السوداني تترنح بين ضربات الميليشيات والقوات الأميركية

العراق تنتظره أيام حالكة ستفتح الأبواب من جديد على هبوب رياح رجعية والتي إحدى تياراتها الطائفية وستؤدي إلى تراجع المدنية والحريات وسيادة أجواء الترقب والخوف واليأس من التغيير.
الخميس 2024/02/15
مراسم نهاية شهر العسل

باتت حكومة السوداني تترنح بين ضربات الميليشيات وضربات القوات الأميركية. الحكومة التي شكلتها الميليشيات، رضت عنها السفيرة الأميركية في بغداد ألينا رومانوسكي التي وصفت الوضع في العراق حينها في جلسة استماع أمام كونغرس بلادها في أيار – مايو من العام الماضي بأن كل شيء مستتب ومستقر والأوضاع هادئة وتمشي الرياح بما تشتهي السفن.

في آخر تصريحات حكومة محمد شياع السوداني، أعلنت بأن لا حول لها ولا قوة أمام الميليشيات وأمام الإدارة الأميركية، حيث لا تقدم أية ضمانات لأي من الأطراف المتصارعة على الساحة العراقية سواء أثناء عملية التفاوض لخروج القوات الأميركية أو من انتقام الأخيرة من الميليشيات في حال عاودت ضرب قواعدها.

وهذا الاعتراف جاء بعد اغتيال قياديين من حزب الله وسط بغداد، حيث لم يمض أكثر من أربع وعشرين ساعة لحديث محمد شياع السوداني رئيس الوزراء مع قناة “الحدث” أكد فيه بأن الحشد الشعبي يملك شعبية واسعة في صفوف الشعب العراقي وهو جزء من المنظومة الأمنية والقوات المسلحة وهو قائدها، ليخبره البنتاغون بأنه اغتال قياديين من حزب الله وهو أحد الفصائل التابعة للحشد الشعبي الممول من موازنة الدولة والذي يقدر تمويله بـ2.5 مليار دولار، لتغرق بعدها صفحات التواصل الاجتماعي في الشماتة وتنفس الصعداء وانتشار أجواء الفرح والسرور في صفوف الجماهير التي قال السوداني بأن الميليشيات تمتلك شعبية في صفوفها، وهي المتورطة في قتل أكثر من 800 من الشباب ذكورا وإناثا في انتفاضة أكتوبر دون أية مساءلة ومحاسبة لا من حكومة عادل عبدالمهدي ولا مصطفى الكاظمي، ولا محمد شياع السوداني الذي يخرج إلينا ويحدثنا عن شعبية الحشد الشعبي في صفوف العراقيين.

◙ ليس أمام السوداني إلا الانتظار في طابور الاستغناء عنه أسوة بالبقية التي سبقته، ويقضي أيامه الأخيرة، بَعَدِّ الضربات الأميركية والميليشياوية، والتنديد والعويل على "السيادة الوطنية"

الإطار التنسيقي في حالٍ لا يحسد عليه، وهو يمثل لفيفا من الأحزاب الإسلامية الشيعية والميليشيات وشخصيات لها باع طويل في الولاء لولاية الفقيه. وقد أماطت اللثام عن المأزق الذي هو فيه، جلسة البرلمان المنعقدة يوم السبت المصادف 11 شباط  – فبراير 2023 لإصدار قرار (غير ملزم في جميع الحالات) حتى لو معنويا في إدانة الضربات وعمليات الاغتيال التي تقوم بها القوات الأميركية، والمطالبة بخروجها، إذ غاب عن الجلسة حتى عدد من أعضاء الإطار التنسيقي، فلم يحضر سوى 88 عضوا من أصل 329، وهذا يعكس حجم الخلاف بين أجنحة التحالف التنسيقي، الذي انعكس بشكل مباشر على حكومة السوداني وشخص رئيس الوزراء الذي انتهى شهر عسله، حيث لا الميليشيات التي نصبته رئيسا للوزراء راضية عنه، ولا الإدارة الأميركية الممتعضة من ميوعته وانصياعه صاغرا للميليشيات، وهو يسعى، أي السوداني، بكل إخلاص للبحث عن العصا لمسكها من الوسط، في وقت لا يملك أي عصا أو في أفضل الأحوال كسرت أثناء الضربات المتبادلة بين الأخوة تحت الطاولة.

بشكل آخر نقول، إن السوداني يعود خطوة إلى الوراء أو إلى حيث انتهت حكومة الكاظمي بدفع العراق للانخراط في محيط ما يسمى بالعربي، بالرغم من تضحياته الجسام التي بدأها بإعلان براءته من حزب الدعوة وتقديم استقالته منه عندما شم رائحة تنصيبه رئيسا للوزراء عوضا من عادل عبدالمهدي، وكانت استقالته الشكلية من حزب الدعوة غمزة لمغازلة ساحات الانتفاضة؛ التحرير والحبوبي والعروسة والثورة وغيرها من الساحات في مدن قلاع الميليشيات والأحزاب الإسلامية بعد أن خرجت الملايين من الجماهير لمحاكمة الفاسدين وقامت بحرق مقرات تلك الميليشيات والأحزاب التي انتمى إلى واحدة منها السوداني، ووقفت بصدور عارية أمام قناصي وبنادق من يدافع عنهم اليوم السوداني ويعتبرهم جزءا من القوات المسلحة وهو قائدها، إلى جانب تحمّله آلام تمزيق صوره أو رسم علامة الرفض (x) عليه من قبل تلك الساحات، وانتهاء بتجرّعه ما جاء في حملة الصحف الإيرانية عليه وتشبيهه بصدام حسين في أيام تنظيم مباراة كأس الخليج في مدينة البصرة في بداية عام 2023، عندما جاهر علانية بدفاعه عن عروبة العراق وفي تسمية الخليج بالخليج العربي بدل من الفارسي، وقالها دون تردد في مقابلته قبل عام مع القناة الألمانية (دي دبليو) أثناء زيارته إلى أوروبا. وحيث أعاد إلى الذاكرة ما حدث في الماضي، وهو الصراع بين المشروعين، مشروع “الأمة العربية” الذي كان يقوده صدام حسين ومشروع “الثورة الإسلامية” الذي رفع لواءه الخميني، وعلى إثرهما نشبت حرب دموية طوال ثماني سنوات بين المشروعين، لينتصر المشروع الثاني بعد خمسة عشر عاما على يد الغزو الأميركي للعراق.

◙ الإطار التنسيقي في حالٍ لا يحسد عليه، وهو يمثل لفيفا من الأحزاب الإسلامية الشيعية والميليشيات وشخصيات لها باع طويل في الولاء لولاية الفقيه

المأزق الذي يعيشه السوداني اليوم هو المأزق نفسه الذي وقع فيه مسؤوله في حزب الدعوة نوري المالكي (ويرجح أنه هو من اقترح عليه تقديم استقالته من حزب الدعوة للالتفاف على المنتفضين في تشرين الأول – أكتوبر) عندما كانت بوصلته موجهة لإعادة تأسيس “دولة وطنية”، فحاول عبر قمع تظاهرات المنطقة الغربية وتشكيل “قوات دجلة” لاجتياح المناطق التي كانت تحت سيطرة الأحزاب القومية الكردية، التي عادت اليوم إلى المركز بعد الحملة العسكرية في السادس عشر من أكتوبر 2017 إثر الاستفتاء على استقلال كردستان في عهد حكومة حيدر العبادي، إلا أنه سرعان ما تغير اتجاه شراعه بسبب الرياح الطائفية القادمة من سوريا بعد هبوب نسيم الثورتين المصرية والتونسية على المنطقة ليستبدل راية “الدولة الوطنية” براية الطائفية، وليطاح به بعد ذلك دون أن يسمع له صوت على إثر اجتياح داعش ثلث مساحة العراق. وها هو السوداني أيضا يُطمس في نفس المستنقع الذي وقع فيه سلفه المالكي، حيث يترنح هو وحكومته على إثر الضربات الأميركية وضربات الميليشيات الموالية لإيران. فمثلما استدار المالكي لنظام طهران ولقب نفسه بـ“المختار” تيمنا بالمختار بن يوسف الثقفي الذي رفع شعار “يا لثارات الحسين” في صراعه على السلطة مع الدولة الأموية، يستدير اليوم السوداني إلى الميليشيات الموالية لإيران. فهو من جهة لا يملك الجرأة ليحل أو يقضي عليها، فدونه ليست هناك أية فرصة للنجاح في دمج العراق بالمحيط العربي وتحقيق مشروعه، لأن حكومته أُسست على حراب الميليشيات وجماجم المنتفضين، وفي نفس الوقت لا يستطيع الاستنجاد بأميركا لأنه جزء من المنظومة الميليشياوية والإسلامية ولا يمكن له كسر عصا الطاعة. وبهذا ليس أمامه إلا الانتظار في طابور الاستغناء عنه أسوة بالبقية التي سبقته، ويقضي أيامه الأخيرة، بَعَدِّ الضربات الأميركية والميليشياوية، والتنديد والعويل على “السيادة الوطنية”.

العراق تنتظره أيام حالكة، وهي مرحلة جديدة من اشتداد الأزمة السياسية وانعكاسها على الأوضاع الأمنية، ستفتح الأبواب من جديد على هبوب رياح رجعية والتي إحدى تياراتها الطائفية، وستؤدي إلى تراجع المدنية والحريات وسيادة أجواء من الترقب والخوف واليأس من التغيير. وعليه نؤكد من جديد أن أي حديث عن الأمن والأمان والاستقرار لا يجدي نفعا دون طرد القوات الأميركية ومنظومة الميليشيات السياسية والعسكرية من العراق.

8