حكمة المشير السوداني وحنكة المشير المصري

المشير محمد حسين طنطاوي سوف يظل علامة في تاريخ مصر لا تقل عن مكانة المشير عبدالرحمن سوار الذهب في السودان، والفرق يكمن في الحكمة والحنكة وطريقة تسليم السلطة في أجواء عاصفة.
الاثنين 2018/10/22
نموذج سوار الذهب نقطة مضيئة في تاريخ السودان

الإشادات التي حظي بها المشير السوداني عبدالرحمن سوار الذهب عقب الإعلان عن وفاته قبل أيام، لها ما يبررها شخصيا وعلى الساحة العربية، حيث يظل الرجل ضربا للمثل في التضحية بشهوة السلطة عندما تمكن من إسقاط نظام الرئيس جعفر نميري دون أن يطمع فيها، وهي صفة عربية نادرة تؤكد حكمته وبعد نظره.

الراحل سوار الذهب أصبح أيقونة وعلامة ناصعة تتجاوز حدود السودان، فكلما جاء الحديث عن الانقلابات التي عمت المنطقة في مرحلة سابقة، يبقى هو الاستثناء في تسليم السلطة إلى حكومة مدنية، وهي عادة غريبة على طبائع العسكريين، الذين إذا وثبوا عليها تمسكوا بها حتى الرمق الأخير.

لست في مجال تقييم تجارب حكم العسكر في أي من الدول العربية، والتي لفظتها شعوب كثيرة، لكن بعضها بدأ يترحم عليها عندما شاهد المآلات التي انتهت إليها الدول بعد سقوط حكم الجنرالات والديكتاتوريات في كل من الصومال (الجنرال سياد بري) واليمن (العقيد علي عبدالله صالح) وليبيا (العقيد معمر القذافي)، فضلا عن العراق بعد الغزو الأميركي وإسقاط حكم صدام حسين.

نموذج سوار الذهب نقطة مضيئة في تاريخ السودان والمنطقة، لكن رجلا بهذا العقل كان أولى أن يستمر قليلا في الحكم ليتولى عملية ترتيب الأوضاع وتهيئة البلاد إلى مرحلة ديمقراطية راسخة، فتسليمه السلطة لحكومة مدنية خلال حوالي عام من انقلابه لم يمنع حدوث انقلاب آخر بعد ذلك بحوالي ثلاثة أعوام، ولم يحل دون ارتكاب حماقات أكدت أن السودان ليس استثناء عربيا على الدوام.

هناك مشير عربي آخر أكثر حنكة ورشدا ولا يقل حكمة عن سوار الذهب، هو المشير المصري محمد حسين طنطاوي، ربما لم يأخذ حظه من الاهتمام خارج مصر، وقد يكون سقط عمدا من حسابات البعض أو احتاروا في تفسير موقفه، فالرجل قاد بلاده في فترة غامضة أثناء توليه رئاسة المجلس العسكري.

المجلس وعلى رأسه طنطاوي تولى إدارة البلاد بعد تنحي الرئيس حسني مبارك في 11 فبراير 2011، وقام بتسليم السلطة إلى رئيس مدني هو الإخواني محمد مرسي في 30 يونيو 2012، أي بعد حوالي 16 شهرا، وهي فترة طويلة نسبيا مقارنة بتلك التي احتاجها سوار الذهب لتسليم السلطة لحكومة مدنية في السودان.

المشير طنطاوي عاد إلى منصبه، كوزير للدفاع، بعد تسليم السلطة لمرسي، وتقبل قرار إقالته بعد ذلك ببضعة أشهر، وخرج من جميع المناصب الرسمية، لكنه لا يزال لدى قطاع كبير من المصريين رمزا لم يطمع في السلطة وقت أن كان وزيرا للدفاع إبان حكم مبارك، ورفض الانصياع لأوامره وسحق المواطنين في الشوارع عندما خرجوا في تظاهرات تطالب بسقوطه.

الطريقة التي أدار بها طنطاوي الفترة الانتقالية كانت مثيرة سياسيا وأمنيا، لأنه تعرض لضغوط شديدة من قبل قوى داخلية وخارجية
الطريقة التي أدار بها طنطاوي الفترة الانتقالية كانت مثيرة سياسيا وأمنيا، لأنه تعرض لضغوط شديدة من قبل قوى داخلية وخارجية

الطريقة التي أدار بها طنطاوي الفترة الانتقالية كانت مثيرة سياسيا وأمنيا، لأنه تعرض لضغوط شديدة من قبل قوى داخلية وخارجية، وتعامل معها بحذر وتريث ومن دون أن يصطدم بها. رفض الابتزاز الخارجي واستجاب لمقتضيات الأمن القومي لبلاده. وأشرف على تنظيم انتخابات رئاسية أدت إلى وصول رئيس إخواني لسدة السلطة في مصر، وقام بتسليمها له فعلا.

الفترة التي تلت تسليم السلطة جرت فيها مياه سياسية كثيرة، لم يكن طنطاوي موجودا فيها بصورة رسميا، وترددت معلومات وشائعات مختلفة حول نوايا المشير تجاه تسليم السلطة لمرسي، وقيل إن الفائز الحقيقي في الانتخابات الرئاسية كان منافسه الفريق أحمد شفيق، لكن طنطاوي رضخ لتسليم السلطة للإخوان، لأنهم هددوا بحرق البلاد وتفجير مؤسساتها.

هذه الفترة كانت مليئة بالتقديرات والاجتهادات والتخمينات والحقائق والأكاذيب، ومعظمها أشار إلى أن المشير طنطاوي لعب دورا مهما في هندسة السلطة في مصر، خلال فترة حكم الإخوان المسلمين وما بعدها، وصولا إلى تسليمها للرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي.

التفاصيل والكواليس المتشعبة تجعل مساحة المقال تضيق على سردها وتفنيدها من نواحي مختلفة، لكن جميعها تؤكد أن طنطاوي كان واعيا بما يتم تدبيره من جانب الإخوان أو القوى التي تدخلت في مصر بذريعة الانتصار للحريات وحقوق الإنسان، وتعامل معها بما فوت الفرصة عليها وبشكل يبدو قانونيا وشعبيا وديمقراطيا.

تسليم السلطة للإخوان كان سلسا إلى حد كبير، وسحبها منهم جاء أيضا بطريقة ناعمة حاولت الابتعاد عن الخشونة المباشرة، وتتوافق مع كثير من الأدبيات السياسية والدستورية. طنطاوي لم يقد انقلابا عسكريا ضد مبارك عندما وجد أن مركبه في سبيلها للغرق، وكان يحظى بقبول داخل مؤسسة الجيش في مصر، وهي الجهة التي تمتلك نفوذا طاغيا يؤهلها لقيادة أي تغيير.

انحياز المؤسسة العسكرية، وعلى رأسها طنطاوي، للشارع عبر بثورة 25 يناير 2011 إلى بر الأمان في الأيام الأولى، وانحيازها أيضا للشارع بعد حوالي عامين ونصف نجّح ثورة 30 يونيو 2013 وما أفضت إليه من ترتيبات. الفرق بين الثورتين، أن الأولى حوت قدرا من العفوية في بدايتها، والثانية جرى التخطيط لها بعناية وحققت هدفها في إزاحة الإخوان من السلطة، والقضاء على فرصهم السياسية مستقبلا.

الاختلاف حول الثورتين يتوقف على موضع من يقوم بالتقييم السياسي، فهناك فريق يرى في الأولى ثورة تشبه المعجزة ولا ثورات غيرها، وآخر يرى في الثانية ثورة وحيدة، لكن هناك فئة عريضة تؤمن بالثورتين. فئة تطمح للتغيير الحقيقي وترفض الرضوخ لأي سلطة دينية أو عسكرية.

تكريم المشير من قبل المؤسسة العسكرية في مصر مستمر حتى الآن، وهو ما جعل البعض يقلل من أهمية دوره، ويسوق مبررات من نوعية أن الرئيس السيسي عمل مديرا لمكتبه، وقت أن كان طنطاوي وزيرا للدفاع، وأن المشير العجوز خطط وأدار عملية وصول الإخوان للسلطة ليسقطوا في براثنها، ويضرب عدة عصافير بحجر واحد.

طنطاوي بدا وقتها كرجل ينحاز لإرادة الشعب، فهو الذي أدار البلاد وأشرف على إجراء الانتخابات التي جلبت الإخوان، وامتص غضب الإدارة الأميركية تحت قيادة الرئيس باراك أوباما، والتي ساندت الجماعة، وفوت فرصة الصدام مباشرة مع الجماعة، ونظر إليه العالم، حينذاك، باعتباره المشير الذي سلم السلطة لحكومة مدنية على غرار سوار الذهب.

إذا قلبنا المشهد على وجهه الآخر، أي قيام المشير طنطاوي بانقلاب عسكري على نظام مبارك، أو أنه تمسك بالسلطة عندما كان رئيسا للمجلس العسكري، أو امتنع عن تسليمها للرئيس الإخواني، فمن المؤكد كانت البلاد دخلت مصيرا قاتما، وانخرط الجيش في معمعة لا تقل عما حدث في دول أخرى، مثل سوريا وليبيا واليمن، وأصبح طرفا في مواجهة ممتدة تستنزف قواه الرئيسية.

الحنكة التي قاد بها المشير طنطاوي السلطة أخرجته منها رسميا، غير أنها جعلته ثيمة داخل المؤسسة العسكرية المصرية، التي تعد الجهة الرئيسية الرابحة من ثورتي يناير 2011 ويونيو 2013، واستطاعت ضمان أمن واستقرار البلاد والخروج بها إلى بر الأمان.

بالطبع في إطار التقييم الموضوعي على مستوى الحريات والديمقراطية ستكون المسألة مختلفة، وهذا يحتاج إلى حديث آخر، لكن سوف يظل المشير طنطاوي علامة في تاريخ مصر لا تقل عن مكانة المشير سوار الذهب في السودان، والفرق يكمن في الحكمة والحنكة وطريقة تسليم السلطة في أجواء عاصفة.

9