حكمة الاستسلام

قيل عن الحياة إنها صعبة ومعقدة وتحتاج الكثير من الصبر والجهد الطويل. كل موروثنا تقريبا ينظر إلى الحياة من هذا المنظور السوداوي، فهي “دنيا” وقاسية وشاقة وملتهمة وكذابة ووو..
جميعنا يكبر على هذه المصطلحات التي تتحول مع الوقت إلى واقع، ويتحول الوجود معها إلى شقاء دائم وصراع لا ينتهي من أجل التغلب على مصاعب الحياة وتعقيداتها.
لا أحد أبدا قال لنا إن الحياة جميلة وتستحق أن تعاش بطولها وعرضها، وأننا يجب أن نغرف منها ما نستطيعه قبل أن تفلت من بين أيدينا. لا أحد قال لنا إننا لسنا في معركة مع الحياة سنخرج منها منتصرين أو مهزومين، ولا أحد شجعنا على الاسترخاء ورمي أسلحتنا وأخذ الحياة في أحضاننا بدل معاداتها ومقابلتها في مبارزة شاقة تستنزف جهدنا ووقتنا.
الاستنفار الدائم وتوقع الأسوأ حتى أننا نخاف أن نضحك وإن ضحكنا نتوجس ونعقب الضحكة الصافية من القلب بـ”اللهم قدر الخير”، هو ما يميز حياة الأغلبية، فـ”الدنيا غرورة”، و”ما أضحكتك اليوم إلا لتبكيك غدا”.
السبب في هذه النظرة الدونية للحياة على الأرض هو مقارنتها بحياة أخرى أسمى وأرقى في السماء. فالأرض منخفضة ووعرة وشاقة، أما السماء فراقية وطوباوية وبها جنة الخلد. وهي مقارنة بدأت مع الفلسفات القديمة والميثولوجيات ثم أكدتها الأديان السماوية لاحقا.
زهد الإنسان في الدنيا سعيا منه وتقربا إلى حياة أسمى وأبقى، وتخلى عن الأرض التي تحت قدميه تطلعا إلى سماء عالية فوقه، حتى قبل مجيء الأديان لتقول بفكرة الخالق الذي يسكن الأعالي (مع أن الديانات لا تذكر صراحة أن الله موجود في السماء). وأعتقد أن هذا التطلع مصدره قدرة الإنسان على الحلم والخيال قبل كل شيء، ورغبته في اكتشاف ما لا يراه ويصله، ولهذا منح كل ما هو بعيد ومستعص صفة القداسة، قداسة ما لا نعلمه.
لذلك فالعلم نور، وكل ما نعلمه يتخلى عن قداسته ويتحول إلى أرض تحت أقدامنا مهما علا واستعصى، عكس ما لا نعلمه الذي يسيطر علينا ويحولنا إلى قدرة ضئيلة وشيء صغير في مقابل جبروته وسطوته.
عندما أذهب في إجازة إلى مكان ما وأشاهد بشرا كثيرين على الشطوط، بينهم مسنون على مشارف الموت، أستغرب قدرة هؤلاء على التصالح مع الحياة، حتى أنهم يأخذون مجازفة السفر وهم بالكاد يمشون ويتنفسون. هؤلاء لا يملكون أسلحة في أيديهم يحاربون بها الحياة وقبضتهم ليست مشدودة على الدوام. لقد فهموا أن الحياة ليست معركة بقدر ما هي سلم، وليست مقاومة بقدر ما هي استسلام.
الاستسلام للحياة بخيرها وشرها، وتقبل تقلباتها على أنها جزء منها، والنظر إلى المرض كما الصحة على أنهما واقع الإنسان وحقيقته، مثلهما مثل الحياة والموت، ومثل الفرح والحزن ومثل الليل والنهار. كل شيء مبني على وجود نقيضه، وكل شيء محكوم بهذه الثنائية ومشدود إليها بقوة الوجود نفسه. هو تقابل السالب بالموجب في فيزياء الكون والإنسان. هذا الاستسلام هو ما يمنحنا السعادة وليس العكس.
في ثقافتنا نسميه الرضا، وهي تسمية أجدها جميلة ومعبرة. أن ترضى وتقبل بما لا قدرة لك على تغييره، وأن تستوعب أن كل شيء ناف لنفسه، ومتلف لها في نهاية الأمر لأن عوامل الإتلاف كامنة فيه وتولد معه، وأن لحظة الميلاد هي لحظة بداية الموت أيضا، هو سر الحكماء.