حكاية الملك عبدالعزيز والرئيس روزفلت.. وحقيقة لقاء كوينسي

التاريخ، كما يقول ابن خلدون، لا يزيد في ظاهره عن أخبار وهو في باطنه نظر وتحقيق، لذلك وعندما يغفل التحقيق تتحول بعض الأحداث والتواريخ الموزورة إلى “حقائق” راسخة. هذا ينطبق على وثيقة زورها ضابط استخبارات بريطاني نكاية بالملك عبدالعزيز آل سعود، الذي طرده من المملكة العربية السعودية، وتحولت مع مر الزمن إلى "تهمة" تلاحق السعودية كلما فتح ملف فلسطين وتوطين اليهود.
في عدد الجمعة 19 أكتوبر 2018 من صحيفة "العرب" نشرتُ مقالا بعنوان "بطاقة حمراء لوثيقة مزورة" تعرضت فيه لقصة صورة زنكوغرافية لقصاصة ورق، قال مروجوها إنها بخط الملك عبدالعزيز آل سعود ويؤكد فيها على منح فلسطين لليهود "المساكين".
بمقابلة الوقائع التاريخية، من خلال وثائقها وبالاستناد إلى المادة العلمية، استخلصت أن الوثيقة مزورة، وأن الذي قام بالتزوير هو الرحالة البارع والمزوّر البارع أيضا جون فيلبي الذي وصل إلى الرياض في العام 1917 قُبيل أن تضع الحرب العالمية الأولى أوزارها. وكان الرجل يمتلك من قوة الشكيمة وإتقان الخديعة وإجادة اللغات الشرقية، ما جعله يسجل في رحلة الحياة، إحدى أغرب القصص الأسطورية وأكثرها تنوعا في فصولها وفي مواقع أحداثها ومهامها.
لم يكن دافعي لما توفرت عليه أدنى علاقة بالمواقف السياسية الراهنة، وإنما هو من باب الانحياز إلى الحقائق التاريخية بحكم كوني باحثا في هذا الميدان. فقد عمل جون فيلبي مستشارا للملك الراحل عبدالعزيز، وأشهر إسلامه، وتزوج من مسلمة سعودية بلوشية، وأطلق على نفسه اسم "الشيخ عبدالله".
وبحكم وظيفته، أصبح يعرف كل شاردة وواردة عن السياسة السعودية وطبائع الملك عبدالعزيز. ويعرف خط يده، علما بأن مكتب الملك كان يعتمد الطباعة في المراسلات الاعتيادية، فما بالنا بكتابة رسائل التعهدات المهمة والخطيرة، ولم يكتب سطرا بخط يده في المراسلات الرسمية.
عميل مخابرات
كل الحكاية، أن الملك سعود بن عبدالعزيز، الذي خلف والده على العرش، طرد جون فيلبي بعد أن اكتشف أن الرجل الذي تقرّب من أبيه بخديعة الدخول إلى الإسلام ومعرفة اللغة العربية، كان قد عمل كمستكشف وهو ضابط استخبارات في مكتب المستعمرات البريطاني، شأنه شأن عشرات المستعربين الذين انتشروا في الولايات العثمانية، كخبراء آثار وعلماء طيور في الصحراء، ومتوددين اجتماعيين، وجميعهم إما من المخابرات البريطانية أو من الصهيونيين القادمين لاختراق المجتمع العربي، في زمن الجهالة العثمانية.
وكان فيلبي بصفته مستكشفا جغرافيا، الأوروبي الأول الذي قطع صحراء الربع الخالي من شرقها إلى غربها. وفي تجربته المعقدة عمل في العراق والأردن والحجاز واتهمته بريطانيا نفسها بالتجسس لحساب ألمانيا واتهم ابنه "كيم" من زوجته الأولى، بالتجسس للاتحاد السوفييتي، وذلك كله قبل أن يُطرد إلى لبنان، ثم يعود إلى السعودية!
بعد طرده من المملكة العربية السعودية، لجأ فيلبي إلى لبنان، لأنه لا يريد أن يبرح المنطقة بحكم تكليفه الاستخباراتي. وهناك، امتزج بالطبقة السياسية، قبل أن يجد أن الابتزاز وسيلته الوحيدة للعودة إلى السعودية. استخدم قصاصة قلّد فيها خط عبدالعزيز، مهددا الملك سعود بالتشويه وأرسل من القصاصة صورة إلى الملك سعود، الذي ابتلع الطُعم وسمح بعودته. وللقصة بالطبع بقية لا موجب للإطالة فيها، إذ عاد في إهاب شخصية "الشيخ عبدالله" وفي جعبته توكيل من شركة "فورد" للسيارات!
كان فيلبي، قبل أن يعود، قد مرر صورة القصاصة لآخرين خشية أن يتعرض للاغتيال، حتى وصلت إلى المعارض اليساري ناصر السعيد، الذي ضمّنها كتابه الهجائي عن "آل سعود". من هنا أصبحت الوثيقة المزورة، مادة متداولة بهدف النيل من سياسة السعودية بأثر رجعي، وقد استُخدمت في السجالات بين المحاور العربية وركز عليها الإيرانيون.
لقاء كوينسي
تأكيدا على هذه الحقائق، وبمناسبة مرور 75 عاما على اجتماع عبدالعزيز آل سعود مع الرئيس فرانكلين روزفلت؛ عرضت السيدة هول ديلانو روزفلت، حفيدة الرئيس الأسبق، فحوى ما دار بين الملك عبدالعزيز وجدّها، وقد استثار ما عرضته حفيظة الأوساط الصهيونية في الولايات المتحدة، ونشرت صحيفة "جيروزاليم بوست" مقالا بعنوان "السعوديون واليهود وكلبة روزفلت".
مما جاء نقلا عن محضر الاجتماع الذي جرى يوم 14 فبراير 1945 على ظهر السفينة “يو. أس. أس كوينسي” في البحيرات المرّة وسط قناة السويس، أن الرئيس الأميركي بادر بسؤال الملك عبدالعزيز عن رأيه في “مشكلة اللاجئين اليهود الذين طردوا من ديارهم في أوروبا”. فأجابه الملك بأنه يعارض “استمرار الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وشراء الأراضي من قبل اليهود”.
في المحضر الذي كتبه السفير الأميركي لدى الرياض وليام إيدي على ورق معنون بـ"مذكرة حوار" وقعها الملك والرئيس، كتب السفير إيدي أن الملك عبدالعزيز أصر على موقفه قائلا إن "العرب واليهود لا يمكنهم التعاون، لا في فلسطين ولا في أي بلد آخر".
عاد روزفلت إلى إلحاحه، واستمر الحوار. لكن عبارات روزفلت، عندما نشرت قبل أسابيع، استثارت الصهيونية الأميركية، التي اعتبرتها مسايرة غير لائقة وتراجعا من روزفلت عن تعهدات سابقة، إذ قال الرئيس الأميركي بالحرف "أود أن أؤكد لجلالتكم، أنني لن أفعل شيئا لمساعدة اليهود ضد العرب، ولن أتخذ أي خطوة معادية للشعب العربي".
في الحوار، استطرد الملك "يتعين على اليهود، أن يحصلوا على مساكن للعيش في دول المحور التي اضطهدتهم، بدلا من فلسطين". فأجابه روزفلت مؤيدا على النحو الذي يستثير اليهود اليوم، إذ قال "يمكن اعتبار بولندا مثالا على ذلك. فيبدو أن الألمان قد قتلوا ثلاثة ملايين من اليهود البولنديين، وبالتالي يجب أن تكون هناك مساحة في بولندا لإعادة توطين العديد من هؤلاء المشردين".
بعد عدة أسابيع من الاجتماع، وتحديدا في 10 مارس 1945 أرسل الملك عبدالعزيز إلى الرئيس الأميركي مطالبا إياه "بالعمل على وضع حد لتنامي الهجرة وتأسيس وطن يهودي في فلسطين". فأجابه روزفلت برسالة قال فيها “أذكّر جلالتكم، بالمحادثة التي لا تُنسى. فلن يتم اتخاذ أي قرار فيما يتعلق بالوضع الأساسي في ذلك البلد، دون استشارة كاملة مع كل من العرب واليهود. وبصفتي الرئيس التنفيذي للحكومة الأميركية، لن أتخذ أي إجراء معاد للشعب العربي”!
الوثيقة استخدمت في السجال بين المحاور العربية وركز عليها الإيرانيون لاستهداف السعودية
وللإنصاف، لم يكن الرئيس روزفلت، حتى تلك اللحظة، يمارس خديعة كالبريطانيين، فقد كان الرجل، بطبيعته، من النوع الذي يستخدم عقله في النظر إلى المسائل ويتأثر بالحقائق، خارج سياق محركات السياسة الأميركية، التي يتوطن في قلبها الصهيونيون، ولهم تأثيرهم.
نستدل على ذلك، بما حدث في جلسة الكونغرس التي انعقدت في الأول من مارس 1945. فقد هبت على روزفلت عاصفة صهيونية امتزجت بالسخرية والإهانة. فقد تحدث الرجل باقتضاب، عن اجتماعه بالملك عبدالعزيز، وربما كانت صيغة كلامه أمام الكونغرس، من النوع الذي يمكن تأويله بشكل ساخر. قال "لقد تعلمت المزيد عن مشكلة فلسطين والدول الإسلامية واليهود من خلال التحدث مع ابن سعود لمدة خمس دقائق، أكثر مما تعلمت في تبادل عشرين أو ثلاثين رسالة معه ومع غيره حول هذه المسائل".
وما إن قال ذلك حتى هبت العاصفة، التي بدأها الزعيم الصهيوني الأميركي د. أبا هليل سيلفر بوابل من الأسئلة: “هل تستشير العرب حول مصير الوطن القومي اليهودي؟” و”لماذا لم تستشر الشعب اليهودي حول مصير العراق أو سوريا أو السعودية؟” و”هل تعلمت شيئا من سنوات علاقتك الطويلة بالقادة الصهيونيين؟” و”هل كان تعهدك الشخصي في الخريف الماضي، أمام المؤتمر الصهيوني، قائماً على قلة معرفتك بالموضوع الصهيوني أيها الرئيس؟”.
ثم وقف السناتور الديمقراطي عن ولاية كولورادو إدوين جونسون لكي يختتم السخرية بالإهانة، فقال "إن استشارتك ملك الصحراء كخبير في المسألة اليهودية لأمر مثير للسخرية، لأن فُلة (وهي كلبة الرئيس) ستكون أكثر خبرة في هذا الشأن".
خلاصة القول إن العامية السياسية في بلادنا تعوم على بحر تختلط فيه التقولات والإشاعات والدسائس بالحقائق الكاملة أو المجتزأة. فمن الخطأ أن يُهمل تاريخ له وثائقه المؤكدة، وتُبنى القاعات على أساس قصاصة مزورة يختلقها ضابط مخابرات بريطاني. ومن ذا الذي يفرز، عندما تُصاب شرائح واسعة من الشعوب في مآزقها، بضياع البوصلة، فتستطيب التخوين الشامل بأثر رجعي، لاسيما عندما تختلف السياسات ويتبدل الناس والحاكمون والمحكومون. بينما الأجدر والأصوب أن يفتش العقلاء عن إيجابيات السابقين لتذكير اللاحقين بمآثرهم ورؤاهم.
فأيهما -بالمنطق- أفضل وأجدر بالحصول على نتيجة، أن يُقال لسياسي راهن عليك بتنسم خطى أسلافك، أم أن يقال عنه، أو له، إن أسلافه كانوا مفرطين في حقوق شعوب أمتهم؟ إن هذا سؤال مهم في ضوء هذا المثال المتعلق بالملك عبدالعزيز!