حكايات الجدات تتراجع عن أداء دورها التربوي في زمن التلفزيون

تتحدّث الحكاية عن سبع صبايا توفيت والدتهنّ وظلّ والدهنّ يسهر عليهنّ، فكان بالنسبة إليهنّ بمثابة الأب والأمّ في ذات الوقت، ولكنّه عزم على الحجّ إلى بيت اللّه الحرام، ونداء الفريضة لا يُردّ. عمل الأب على تزويد بناته بكلّ ما يحتجن إليه في غيابه من مؤونة وأوصاهنّ بألّا يخرجن من المنزل وألّا يفتحن الباب لأحد وجعل عليهن كلبا أمينا ليحرسهنّ ثم انصرف إلى حال سبيله.
ما إن غادر البيت وأنزل الليل ستاره حتّى قدم الغول إلى منزل الصبايا وهو يردّد منتشيا “سبع صبايا في قصبايا ايطيح (ينزل) الليل وناكلهم”، وما إن يصل إلى المنزل حتّى يطرق الباب مناديا وزاعما بأنّه خالة الصبايا قد طهت لهنّ عصيدة شهيّة، فيهممن بفتحه غير أنّ أختهنّ الصغرى تحذّرهنّ من مغبّة فتح الباب ومخالفة أوامر والدهنّ وتلفت انتباههنّ إلى أنّ الطارق ما هو إلّا غول في حقيقة الأمر متنكّر في هيئة خالة يتربّص بهنّ ليفترسهنّ فيقرصنها ويضربنها إلّا أنّ الكلب يقف له بالمرصاد قائلا “بوهم (أي أبوهم) وصّاني عليهم واللّه ما تذوقهم”، فيخاف الغول ويتقهقر إلى الوراء في مشهد مثير للسخرية غير أنّه لا يستسلم فيعيد الكرّة من الغد ومن بعده في الظلام الدامس مردّدا نفس الرغبة “سبع صبايا في قصبايا ايطيح الليل وناكلهم”، وما إن تهمّ الصبايا بفتح الباب بعد أن يضربن بعرض الحائط نصيحة شقيقتهنّ الصغرى حتّى يجيبه الكلب “بوهم وصّاني عليهم واللّه ما تذوقهم”، فيُصيبه نباح الكلب بالهلع ويطلق ساقيه للريح وقد بلغ الرعب منه مبلغه إلى الحدّ الذي أصابه بالإسهال.
ضاقت الصبايا ذرعا بالكلب ونباحه وبصدّه للطارق على الأبواب والقلوب. فذبحنه ورمينه في حفرة، ولكنّه واصل النباح كلّما قدم الغول مهدّدا في السرّ ومغريا للبنات في العلن فيعود أدراجه خائبا وبخفّي حُنين، وحتّى عندما أخرجنه من الحفرة وأحرقنه ظّلّ هباؤه ينبح ويمنع زائر اللّيل الغريب من الدخول على الصبايا وافتراسهنّ إلى أن عاد أبوهنّ من الحجّ وأخبرته الابنة الصغرى بما حدث. حفر الأب جبّا عميقا أمام المنزل وغطّاه بحصيرة ولمّا وفد الغول ليلتها إلى البيت وحثّ الخطى معتقدا أنّ الفتيات فرشن له حصيرة تشريفا له حتّى وقع في الجُبّ، فتهشمت عظامه ثمّ مات.
الحكاية تربوية تعليمية تربي كل الصبايا المستمعات ولا ترسم لهن فقط الحدود بين الأمان ونقيضه، ولكن بين المحلل والمحرم
هذه الحكاية موجودة بروايات متعدّدة في المغرب العربي وتختلف في بعض الجزئيات من قطر إلى آخر وفي بعض الأحيان في القطر الواحد، وقد لفتت انتباه الفولكلوريين الفرنسيين منذ نهاية القرن 19. نذكر من هؤلاء جان مارتان الذي اهتمّ بترجمة هذه الحكاية إلى الفرنسيّة في إحدى رواياتها التونسيّة سنة 1940، ولاحظ أنّها تُوجد في الجزائر في روايات متعدّدة في المديّة والبليدة وبوسعادة ولكنّها تُعرف هنالك بـ”الغولة والسبع صبايا”.
هذه الحكاية في روايتها الجزائريّة كما يقول مارتان كان قد دوّنها ونقلها من اللهجة المحلّية إلى الفرنسيّة قبله بثلاثين سنة، أي سنة 1910، فرنسي آخر مغرم بالحكايات الخرافيّة الشفويّة يُدعى ديسبارمت، كما يذكر نسخة أخرى لهذه الرواية كان فولكلوري فرنسي يُدعى باسي قد دوّنها في الغرب الجزائري بجهة وهران سنة 1884، وذكر أنّها توجد نسخة لها في جهة وجدة ومنطقة الريف بالمغرب الأقصى وهي ذاتها كما يقول مارتان حكاية “سبع صبايا في قصبايا” التي تُوجد في الشرق الجزائري وفي تونس وفي غرب ليبيا ولا تختلف عنها إلّا في كونها تعوّض الغول أو الغولة بشخصية عجوز شمطاء أدخلت على الصبايا ابن السلطان الذي انتهز فرصة غياب الأب في الحجّ لينال منهنّ، ولكنّه لم يستطع أن ينال من الصبيّة الصغرى التي تُدعى زرقة.
روايات الغرب الجزائريّ وشرق المغرب الأقصى تشير صراحة إلى نيل الذكر، زائر الليل الغريب، من الصبايا ماعدا الصغيرة الفطنة، بينما الروايات التونسيّة كما روايات شرق الجزائر وغرب ليبيا تلوذ بالرمز وتقنّع الرجل الذكر بالغول أو الغولة المتنكّرة في ثوب الخالة، ولا غرابة في ذلك فالذكر كثيرا ما يتقنّع ويغري بالكلام المعسول وبالهدايا ويخفي نزعاته الشهوانيّة، وهذا ما تكشف عنه وتحذّر منه الثقافة الشعبيّة السائدة صبايا منزلتهنّ الوجوديّة هشّة وترمز إليها القصبايا أي الكوخ من القصب والقشّ اللواتي يقطنّه.
ترسم هذه الحكاية حدّا فاصلا بين الداخل والخارج. الداخل يمثّله بيت الأب باعتباره رمزا للأمان والطمأنينة والسكينة وعلى الصبايا أن يتحصن به حتى يحين موعد الخروج إلى بيت الزوجية، في حين يمثّل الخارج العدوانيّة والتوحّش الذي يرمز إليه الغول أو الغولة، وليس ثمّة ما هو أخطر في هذا الخارج من الذكر على فتيات أبكار يتيمات الأمّ في غياب الأب وانعدام الأخ الحاميين. الصبايا الكبيرات في السنّ راودتهنّ الرغبة لميل طبيعي في فتح الباب واكتشاف الذكر الغريب، ما عدا الصبيّة الصغرى وهذا طبيعي أيضا، فهي لا تحنّ للذكور عدا الأب. نباح الكلب ما هو إلّا صوت الأب الغائب الحاضر ولكنّه الساكن الخالد في دهاليز النفس ويتعالى حتّى من ذرّات الهباء والرماد وهو ليس في الحقيقة إلّا صوت القيم الاجتماعيّة. الحكاية تربويّة تعليميّة تربّي كلّ الصبايا المستمعات ولا ترسم لهنّ فقط الحدود بين الأمان ونقيضه، ولكن بين المحلّل والمحرّم.