حقوق الإنسان المفترى عليها والمفترية على مصر

لم تثر قضية جدلا داخليا وخارجيا في مصر مثلما يحدث مع ملف حقوق الإنسان، فبعض القوى السياسية المعارضة تعتبره مسألة حيوية يجب أن تحظى بالاهتمام الكافي من قبل الحكومة، وتنهي الإشكاليات التي تواجهه، وبعض القيادات الغربية تراه قضية رئيسية مطروحة باستمرار على معظم اللقاءات والقمم التي تُعقد مع الرئيس المصري.
لكل فريق خطاب وبراهين وشواهد في التناول، المعارضة والغرب والقاهرة. ولكل منهم حجج ومبررات تدفعه إلى المعارضة والتحفظ والدفاع. في جميع الحالات يثير منطق كل طرف خلافا حادا، قد يطويه النسيان، ويرتبط الطرح بالأجواء السياسية في مصر، وحدود العلاقة الحاكمة مع الجهة التي تقف خلف تفجيره.
ربما تكون خفتت سخونة الحديث حوله على المستوى الداخلي، لتفهم الطريقة التي تتعامل بها الحكومة والرضوخ للتعايش معه، أو لتراجع الدور الذي تلعبه المعارضة على الساحة السياسية وانحسار الحركة أمامها، وربما لليأس وعدم الجدوى من مناقشته، لكن ملف حقوق الإنسان لا يزال يحظى بتركيز من جانب بعض الجهات الغربية.
المؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع نظيره المصري عبدالفتاح السيسي في القاهرة، الأسبوع الماضي، كان شاهدا على محددات كثيرة، لأن ملف حقوق الإنسان حظي بنقاش واسع وعلني بينهما، وبدت المسافة بين الطرفين بعيدة، وهذا لم يلغ قربها في ملفات سياسية واقتصادية وأمنية وصفقات عديدة، شأن الكثير من العلاقات بين مصر والكثير من الدول الغربية، بمعنى يوحي وكأن هناك فصلا متعمدا بين المجالات المختلفة.
هذا الفصل يتلاشى أحيانا، ويطغى حديث بعض الزعامات الغربية عن حقوق الإنسان في القاهرة ويتقدم كملف حيوي أكثر أهمية من غيره، ويمكن أن يؤثر سلبا على ملفات أخرى، وهكذا فهم قطاع كبير من المصريين من الإشارات المكثفة التي طرحها ماكرون أمام السيسي، إلا أن المصالح المشتركة قلّلت الفجوة بينهما، وجرت تهدئة الخلاف في أروقة سرية لاحقا.
تواري الملف أو مداواة جراحه دبلوماسيا بين القاهرة وباريس لا يعني عدم فتحه مرة ثانية، وفي مناسبات متباينة مع ماكرون أو غيره، فلا يزال هناك انطباع عام حول عدم الرضا التام عن حالة حقوق الإنسان في مصر، ولا تزال بعض الجهات الحقوقية والسياسية، المحرّضة، تلعب دورا في تغذية الضجيج، كما أن هذه ورقة مهمة من الصعوبة التنازل عنها، لأن فعاليتها كبيرة.
النقطة المحورية في هذه القضية تخص تباعد مفهوم حقوق الإنسان بين الطرفين، ووجود خصوصية لدى كل جهة تثيره، ليس من قبيل الضغط على الحكومة المصرية، لكن من زاوية أنه قد يكون بالفعل عملية جادة لدى بعض الدول الغربية.
إذا أبعدنا الجانب السياسي المباشر الذي يحرّف القضية عن أحد معانيها الإيجابية وتجاوزنا عن الخطاب الاستشراقي الذي اتبعه الرئيس ماكرون، فإن هناك تفسيرات عديدة تمنح أصحابها وجاهة في التناول.
بعض الدول الغربية ترى أن الحفاظ على حقوق الإنسان إحدى القيم المثلى لدى شعوبها، وقد يتحوّل الملف إلى أداة ضغط قوية على أي قيادة حاكمة، ومن خلالها يمكن دغدغة مشاعر المواطنين، ولذلك تؤدي القضايا ذات الجوانب الإنسانية إلى زخم كبير يضاعف من صعوبة تجاهلها لأسباب سياسية.
ماكرون أو غيره، يراودهم اعتقاد بأن حدوث انتهاكات في هذا الفضاء، يمثل أحد أسباب العنف في منطقة الشرق الأوسط، ويمهد لاتساع نطاق الهجرات غير الشرعية إلى أوروبا، وبدأت هذه النغمة تلقى أصداء كبيرة مع معاناة الكثير من الدول الغربية في ظل تزايد العنف والهجرة معا، ولذلك تريد هذه الدول تقليص المقدمات وسد المنافذ على هذين الخطرين، أملا في تجاوز المحن التي تترتب عليهما مستقبلا.
ومن التجليات التي كشفت الغطاء عن بعض الخلافات بين مصر ودول غربية، أن القاهرة حصدت مديحا كبيرا من دول الاتحاد الأوروبي لأن الهجرة غير الشرعية تلاشت تقريبا من السواحل المصرية العام الماضي، لكن هذا المديح تعمّد تجاهل السبب الرئيسي الذي أفضى إلى هذه النتيجة، وهو الربط الشامل بين الإرهاب والهجرة، واعتبر الأوروبيون الأول ملفا مطاطا يمكن أن يسبب حرجا بالغا إذا جرى اعتماده بالطريقة المصرية التي لجأت إلى تجفيف منابعه بالقوة والصرامة.
هناك دول غربية تتعامل بانتقائية، وتريد وقف الهجرة غير الشرعية من دون دفع تكاليف معنوية، وتسعى إلى أن تقوم مصر، أو غيرها، نيابة عنها بهذه المهمة، وعند التمادي في البتر يتقدم ملف حقوق الإنسان، وتبدو الدول الأخرى شريرة ومتسلطة، ويحتفظ ماكرون ورفاقه بقاموس القيم العريقة وهذا لا يلغي وقوع تجاوزات حقيقية وسط اللجوء إلى بعض المعالجات الخاطئة.
الملف الحقوقي هو محل خلاف منذ سنوات طويلة، لكن تزايده في السنوات الأخيرة له علاقة بما جرى من تطورات في المنطقة أرخت بظلال قاتمة على بعض الدول، وهناك حكومات ترى فيه مدخلا للتخريب السياسي وكفى، وتلجأ إلى التضييق العام على الحريات والعاملين في هذا المجال، وتفرط أحيانا في استخدام القوة، بحجة أنها لا تريد إعادة إنتاج فوضى سابقة.
الظروف التي مرت بها مصر تمنحها بعض المسوغات بشأن اتساع مفهوم حقوق الإنسان، ليشمل الحق في التعلم والصحة والسكن، علاوة على الحق في الحرية، ما يثير مشكلة أخرى تتعلق بخلق تناقض غير مفهوم بين هذه النوعية من الحقوق.
الهلع الذي أصاب بعض الحكومات عقب انتقال ثورات الربيع العربي من دولة إلى أخرى هو أحد الأسباب التي تفسر ما يجري من انتهاكات ولا تبررها، فلها طرق متعددة لعلاجها، ليس من بينها المزيد من التمادي في القوة، فسوف تؤدي على المدى البعيد إلى أزمات معقدة تؤثر على صورة وسمعة الدولة، ومتانة وتماسك المجتمع ودرجة التشوه التي تلحق به.
حقوق الإنسان المفترى عليها وفقا للمفاهيم الغربية، يرى فيها بعض المواطنين أنها مفترية في مصر، عندما ترتفع الأصوات ضد كل تجاوز تقع فيه الحكومة، وتنخفض أو ترتخي أمام تجاوزات ترتكبها قوى العنف، وعندما تسلط بعض منظمات حقوق الإنسان الأضواء على الأولى وتطفئها مع الثانية، ما أفضى إلى حالة كبيرة من عدم الثقة، قد تحتاج وقتا طويلا لتخطي عيوبها ورواسبها مع القناعات والمفاهيم المتباعدة.
المشكلة الخطيرة تكمن في ترتيب الأولويات والربط المغاير بين الحفاظ على الأمن وحقوق الإنسان، فدولة مثل مصر ترى الأول مقدما على الثانية بامتياز، والمفاضلة بينهما تميل باقتدار ووضوح لصالح الأمن، بينما تحاول دول غربية كثيرة جعلهما في كفة متساوية ويسيران جنبا إلى جنب، لكن عند المحكات والمفاصل الرئيسية وحدوث مفاضلة ضرورية تميل إلى منح أولوية للأمن، ولو جاء ذلك على حساب الثانية.
الفرق بين المنهجين في الحدود الممنوحة لاستخدام القوة والمدة الزمنية المسموح بها، ودرجة الوعي والثقافة والنضج التي وصل إليها المجتمع، وهو ما يجعل ملف حقوق الإنسان قضية جدلية في مصر، يظهر ويختفي ويخضع لحسابات متباينة.