حـقيبة اللجـوء

الاثنين 2016/05/09

تتعدد حقائب اللجوء كما تتعدد حقائب السفر تماما، لكنها تختلف اختلاف معسكرات اللاجئين وتمايزها المثير للشجن وعذابات الغربة. عن أي حقيبة نتحدث؟ حقيبة المهجّر أم حقيبة المهاجِر، حقيبة اللاجئ أم حقيبة النازح؟ وأيّ لجوء أو هجرة نقصد؟ الهجرةَ الداخلية، التي يطردنا إليها الوطن فنهرب منها إليه مرة أخرى، لندق أبوابه بقلوبنا الدامية، أم مخيماتِ اللجوءِ البعيدة حيث يتحول الوطنُ الى ذكرى تزداد تلظيا كل يوم؟

وحقيبة اللجوء الداخلي خلاف حقيبة السفر، فهي أقرب الى الصرّة منها إلى الحقيبة، خالية من الترتيب والمؤونة، ومحمولةٌ على عجل، كأنها محشوّةٌ بالأسمال والأعمار المبددة ويقطر منها جـوعٌ مالـح. أفق يرتجف من فرط الإحساس بالعار: شيوخ يتكومون على الأكتاف، وأطفال يدعكون قلوبهـم، بحجارة المواقـد الخامـدة، ورياح تجوب المخيمات مليئةً بالدموع والتجاعيد.

محنة اللجوء الداخلي أنها أشد مضاضة، آلاف المرات، من اللجوء الى الخارج، محنة يصنعها الأهل والعدو وغضب الطبيعة مجتمعين. ليس إلا الجوع والأمطار الموحلة تملأ قلوبَ اللاجئين بالحيرة، وأرضَ المخيم بالضجيج. وليس أمام اللاجئ إلاّ أن يقف مشدوداً إلى العراء الثقيل ضحية للفصول جميعا.

والهجرة أو اللجوء الى الخارج قد يكون فرديا، أما الهجرة الداخلية فهي جماعيةٌ في الغالب، جزءٌ من انقلاب الوطن على ذاته الطيبة: مدنٌ تقتلع من جذورها الطينية الدافئة، ويدفع بها الى الموت تحت سماواتٍ جرداء، وطفولةٌ تتمزق تحت مخالبَ حميمة ظالمة. إنها هجرة من نوعٍ خاص، من الوطن وإليه، أُعـدّتْ لها منذ البداية وزارةٌ متخصصةٌ تسهر على تنميتها، وتوسيعها، وتحرص على جعلها أشـدّ فجائعيةً وجبروتا كل يوم.

في الخارج ما إن يدخل طالب اللجوء الى المخيم حتى يذهب الوطن كله إلى الذاكرة، بجماله التعيس، وتعاسته التي ألفناها حـد الإدمان. قد لا يجد ما يطفئ حنينه إلى الوطن، لكنه قطعا لا يجد أمامه، على أرض المخيم، إلا بشرا يرتفعون به إلى مستوى الآدمية، ويعملون أقصى ما يستطيعون كي يشفى من خوفه ويتعافى من إحساسه القديم بالمهانة.

وحقيبة الذاهب إلى متاهة اللجوء باردة، وموجزة، وترتعد من الخوف على الدوام، فاللاجئ لا يحمل في حقيبته ما يدل عليه، إلاّ في الحدود الدنيا، لأن الدلالة عليه مجلبة للشك أو التهلكة أحيانا. إن حقيبته، كقصيدة مكتوبة دون عناية، صراخ مكتوم يعني خلاف ما يقول، ومعنى مشتت، تتسع له النية ولا يسعفه القول.

وإذا كانت حقيبة المسافر لا تشتمل، في الغالب، إلاّ على هداياه أو ما يديم به لذة الانتظار لحياةٍ مقبلةٍ وصداقاتٍ تنتظره هناك، فإن حقيبةَ اللاجئ لا تتسع إلا للقليل جدا والموجع جدا، إلا لمخاوفه وارتباكاته، فهي مثل نفسيته محشوةٌ بالبرد والضيق وبراهينَ مشكوكٍ فيها على فرحٍ ينتظره أو حياةٍ يتمناها.

ينطلق المسافر،عادةً، بين نقطتين مؤكدتين؛ حياة عاشها حد الإدمان أو الملل، وحياة خفيفة عابرة كالفرح سيعود منها بقليلٍ من الارتواء وكثير من التلهف. و بين هاتين النقطتين تظل حقيبته مكتظةً بالوعود البيضاء، والتوقعات، والأمل المؤكد بالعودة. أما حقيبةُ اللاجئ فهي، كضرع بقرةٍ نافقةٍ على الطريق، صغيرةٌ، ضامرةٌ، ومتغضنة، وليس فيها ما هو مفرحٌ أو مؤكدٌ أو نهائيّ.

إن حقيبة اللاجئ، في النهاية، ليست وحدها غريبة الشأن أومدعاةً للتأمل المحزن، بل حتى سفره لا يشبه سفر الناس، ولا يأخذ مكانه اللائق بين الأيام. لا تذكرةٌ تحرك المخيلة، ولا ما يصاحب السفر من انفعالات. لا موعدٌ للمغادرة، ولا طائرةٌ تقله عبر الأجواء، ولا مودعون يمطرونه بالحنين والمناديل المبللة.

قد يخرج من بيته تحت جنح الظلام، مثل لص خائب أو شبح مريب، قد نسمي يوم مغادرته تسللاً أو تهريبا. قد يمضي ليلته الأخيرة في كهفٍ، أو أنبوب لتصريف المياه، أو مكان مهجور على طرف اليابسة: منتظرا مهربا عديم الرحمة، أو زورقا مثقوبا، أو موتا أوسع من بحر وأحـنّ من وطن.

شاعر من العراق مقيم في الإمارات

14