حسم معركة الوطنيين والولائيين في العراق صعب

ما أحدثته ثورة أكتوبر كان خرقاً كبيراً في جدار النظام السياسي وطعناً في قلب معادلة الحكم الطائفية واستهدافاً جدّياً للقوى الولائية أصبحت له تداعياته على منظومة الحكم وقادته وميليشياته.
الأربعاء 2022/02/23
معركة خطرة وشاقة

لا يمكن إعطاء قيمة استراتيجية بالمعنى الواقعي لتداعيات سياسات ما بعد احتلال العراق عام 2003، خصوصاً بعد انتخابات العاشر من أكتوبر 2021، إلا بعد حصول تفكيك حقيقي لأعمدة إدارة الحكم في العراق التي صممت على منهج التوافق سيء الصيت. هذا يعني الإجابة على التساؤل الجدّي والمهم: هل أن نتائج هذه الانتخابات والخطوات المسموعة لتحالف الأغلبية الوطنية تشكل خطوة جدّية على طريق إلغاء أساسيات مبدأ التوافق أم أنها عملية تغيير شكلية في ديكور النظام السياسي القائم ليصبح أقلّ حدّة وأذى من الأعوام السابقة؟

الجزئيات اليومية المنظورة في خطوات الفائز الأول في الانتخابات مقتدى الصدر، سواء في تحالفه كواحد من قادة الشيعة مع ركني صفقة المكونات (الأكراد والسنة) التي رسمها بصورة ضبابية دستور 2005، أو في معركته الإعلامية مع القسم الثاني من المكوّن الشيعي المسمى “التنسيقي” تشير إلى علامات أولية غير مضمونة لحصول التغيير الجدّي في طبيعة ومكانة عناصر القوة التي تأسست بعد عام 2003 رغم الدعم الجماهيري الذي يبقى رصيداً مهماً غير مباشر لقادة التبشير بهذا التغيير.

أهمية مقتدى الصدر في ما يحصل هذه الأيام لا تعود حصراً إلى مكانته الرمزية العائلية ضمن المنطق المذهبي، بعد أن أصبح التداخل الديني – المذهبي  في السياسة حقيقة مرة آذت شعب العراق، إنما لاختياره المبدئي بشكل مبكّر لطريق العراقيين أهل البلد، وليس الدخلاء والمأجورين، في مقاومة الاحتلال الأجنبي وكل تبعاته اللاحقة، رغم الملاحظات المتعلقة بشراكته وأتباعه في السلطات التنفيذية ببغداد التي تحولّت إلى مغانم ثم نهب ثروات العراق دون الاكتراث بما حل بشعبه من كوارث تتجاوز في قساوتها وآثارها ما حصل من كوارث الحروب العالمية.

بلا مبالغة سياسية، ما أحدثته ثورة أكتوبر 2019 كان خرقاً كبيراً في جدار النظام السياسي وطعناً مؤثراً في قلب معادلة الحكم الطائفية واستهدافاً جدّياً للقوى الولائية أصبحت له تداعياته الحالية على منظومة الحكم وقادته وميليشياته الذين كذبوا طوال سنوات ما قبل 2019 على الشيعة العراقيين بدعوى تمثيلهم زوراً وبهتاناً. لقد تحجمت ما تسمى بالقوة المذهبية التي لعب عليها القادة الشيعة الذين اختاروا الولاء لطهران، وأصبحت معزولة عن جمهورها المفترض رغم حملات الإعلام الكاذب المأجور. هذه الثورة الجديدة الأصيلة شكلت رصيداً وقوة جوهرية لنظافة شعارات الصدر اليومية.

المعركة انفتحت على أبواب وميادين غير مسبوقة، لكنها خطرة وشاقة، لنزع أنياب النمر الجريح. معركة أهل العراق مع هؤلاء الفاسدين والقتلة، وهي معركة طويلة

الفعاليات التي حدثت خلال الشهور الثلاثة الماضية، ما بعد صدمة الانتخابات، حيث تحوّل الكارت الأخضر لمرور القيادات الشيعية، التي أعلنت رسمياً خلال وبعد حرب العراقيين على داعش 2014 – 2017 عن ولائها لحكم الملالي في طهران وليس العراق، إلى كارت أصفر للبعض وأحمر للبعض الآخر، شكلت ملامح التفكك الفعلية في عناصر قوة الحكم أهمها انهيار التحالف الاستراتيجي الشيعي – الكردي رغم محاولة القسم التنسيقي من الشيعة بناء تحالف هزيل مع قسم من الأكراد.

تاريخيا، الزعيمان الكرديان جلال طالباني ومسعود بارزاني هما من وضع غالبية المواد الدستورية المتعلقة بالحكم الفيدرالي عام 2005، وكان المقصود بها حصراً تنظيم الآليات الدستورية لهذا النمط الجديد في إدارة الحكم في العراق الخاص بالأكراد، أما ما تعلق بفيدرالية المحافظات العراقية الأخرى فكان ثانويا، ليتمتع الأكراد بثروات العراق النفطية وبالحرية والمرونة العسكرية والأمنية ليصلوا إلى ما وصلوا إليه من تطور في ميادين الحياة، رغم حملات التشكيك اللاحقة من القيادات الشيعية. وظلّت قصة انضمام كركوك والمناطق المسماة “متنازعا عليها” عالقة بانتظار طال أمده للتعديلات الدستورية.

الالتزام بتفاهمات التوافق الاستراتيجي الشيعي – الكردي من قبل القادة السياسيين كان عامل تطمين للقادة الأكراد (طالباني وبارزاني) في حينه. ظلت هذه اللعبة بعد وفاة طالباني وتفرّد مسعود بارزاني بقيادة الأكراد خاضعة لتقلبات المصالح مع بغداد، فحين كان نوري المالكي خلال عام 2010 وما بعده يحتاج إلى الأكراد لضمان سلطته كان يذهب إلى أربيل مؤكداً تلك التفاهمات، مقابل منحه شارة الموافقة على مواصلة حكمه وحزبه الدعوة في بغداد. كانت مقايضة دفع شعب العراق ثمنها.

الذي حصل بعد انتخابات 2021 مجرد ملامح أولية لكنها خطيرة لتعطيل مفاعيل التحالف التاريخي الاستراتيجي الشيعي – الكردي بعد انتصار قيادة شيعية بديلة عن قادة شيعة تقليديين، فازت بالانتخابات الأخيرة (قيادة الصدر) الذي عرض على الأكراد تحالفات من نوع آخر لا تخلو من المصالح، لكن تحت شعار الإصلاح الجذري السياسي والاقتصادي الذي لا يحرج الأكراد في حال ضمان مصالحهم التاريخية، عززه تحالف السنة بقياداته الجديدة.

الخطورة في هذا التطور الجديد أنه في حال نجاح تحالف الأغلبية الوطنية في بناء آليات السلطتين، رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء، خارج نفوذ الشيعة الولائيين ستدخل تلقائياً في مرحلة جديدة لإعادة بناء السلطتين التشريعية والقضائية، ومن أركانها مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الدستورية والمحاكم العليا في البلد وغيرها. هذا يعني الدخول في مرحلة التغيير الشامل في النظام السياسي، وهذا ما تقاتل إيران مستخدمة وكلاءها لمنعه.

أهمية مقتدى الصدر في ما يحصل هذه الأيام لا تعود حصراً إلى مكانته الرمزية.. إنما لاختياره المبدئي بشكل مبكّر لطريق العراقيين أهل البلد، وليس الدخلاء والمأجورين

هذا هو السبب الذي دفع بنظام الولي الفقيه إلى التدخل الميداني المباشر عن طريق موظفه إسماعيل قاآني لمنع تلك التداعيات، وإقناع مقتدى الصدر بقبول سلة من العروض كاختياره لرئيس الوزراء وغيرها من معاني الوجاهة السياسية، لكن دون الخروج عن الضوابط الإيرانية للبيت الشيعي “الحاكم في العراق”، من بينها بناء تحالفات جديدة مع السنة والأكراد خارج نطاق البرنامج الإيراني، وذهب إلى مسعود بارزاني لذات الغرض لكنه أخفق، مما دفع رئاسة طهران أخيراً إلى تحريك توابعها من حكام الخليج لذات الغرض، ويتوقع فشلهم.

رفض الصدر كان التداعي الأكبر لما حصل خلال الأيام الماضية من انهيار في بنيان التحالف الشيعي الولائي الكردي، وإبراز الأسلحة المضمومة في ملفات أبرزها ملف النفط والغاز لدى قادة الشيعة، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي لأن المحكمة الاتحادية التابعة لمجلس القضاء الأعلى كانت مضمومة كسلاح جديد بوجه الأكراد وغيرهم، فتم تنفيذ قرار عدم مشروعية القانون الكردي للنفط والغاز بعد خمسة عشر عاماً على تنفيذه، ودعمه عملياً من قبل رؤساء وزراء سابقين في مقدمتهم عادل عبدالمهدي إضافة إلى ملف منع هوشيار زيباري من الترشح لرئاسة الجمهورية.

هذا التطور غير المتوقع كشف نوع المخادعة في ما سمي بالتوافقية التي كانت بديلاً سهل التلاعب به خارج الدستور، ولهذا السبب فسّرت المماطلة في موضوع عدم الإقرار التشريعي لقانون النفط والغاز منذ عام 2007 وإلهاء الأكراد باتفاقات شفهية أو تحريرية يمكن التنصل منها في أية لحظة. هذا ما حصل في استخدام المحكمة الاتحادية كأداة ما زالت بيد هؤلاء لضرب القادة الأكراد الذين تمردوا على ذلك التحالف المريض. كذلك في عدم تنفيذ التعديلات الدستورية من بينها المادة 140 الخاصة بالمناطق المتنازع عليها.

ردّ فعل قيادات الشيعة الولائيين في معركتهم الحالية ضد السنة أسهل بكثير من مواجهتهم للصدر، حيث بإمكانهم استخدام وسيلتهم المفضلة، الترهيب بالسلاح، فيما يستحيل ذلك بوجه من يمتلكه وهو مقتدى الصدر. لهذا السبب اشتغلت تلك القوى منذ سنوات طويلة على تجريد العرب السنة من السلاح وتركهم ضحايا لداعش. الآن ومن خلال الميليشيات تنفذ ميدانياً عمليات الترويع والترهيب ضد رموز القيادات السنية المتحالفة مع الصدر والأكراد، في مقدمتهم رئيس البرلمان المنتخب محمد الحلبوسي. وتوجد وسائل ترهيب سياسية أخرى قد تحصل قبيل انتخاب رئيس الوزراء الجديد مثل العودة لإحياء ملفات الإرهاب والفساد للضغط على بعض القادة السنة.

المعركة ما زالت في بدايتها بين القوتين الولائية والوطنية، ولا نعرف مدى قدرة القيادة الكردية على الصمود طويلاً، وعدم الرضوخ لسياسة الإذعان التي تمارسها قوى الشيعة الولائيين الذين ما زالوا يتحكمون بكثير من مفاصل الحكم الخطيرة. هل هم قادرون على مواصلة تحالفهم مع الصدر والقيادة السنية والانتقال السلس إلى المراحل التنفيذية في اختيار رئيسي الجمهورية والوزراء؟ هناك شغل يهدف إلى قيام تحالف مقابل في هذا الجانب للعرقلة والتعطيل باستنساخ مؤلم للتجربة الإيرانية في لبنان “الثلث المُعّطل”.

المعركة انفتحت على أبواب وميادين غير مسبوقة، لكنها خطرة وشاقة، لنزع أنياب النمر الجريح. معركة أهل العراق مع هؤلاء الفاسدين والقتلة، وهي معركة طويلة.

9