حرير المهدية التونسية وصوفها يدخلان أغلى دور الموضة العالمية

يعمل مصممون تونسيون على الاستفادة من مخلفات الحرفيين بإعادة تدويرها مراعاة للبيئة وفي نفس الوقت للمحافظة على الطابع الفلكلوري التونسي، حيث قاموا بتأسيس ماركات محلية تمزج في تصاميمها بين العصري والتقليدي.
المهدية (تونس) - وصل مصمم الأزياء التونسي شمس الدين المشري إلى مدينة المهدية الساحلية مع غروب الشمس، بعد أن أمضى نصف يومه في القيادة وسط الحرارة الحارقة بحثا عن الأقمشة الثمينة المصنوعة يدويا التي يحتاجها لمجموعته الشتوية القادمة.
ومع اقتراب نهاية رحلة برية امتدت على حوالي 200 كيلومتر (125 ميلا) من تونس العاصمة، يعرف المشري المكان الذي سيقصده تماما؛ قبو ورشة مضاءة باللون الأزرق، مخبأة في متاهة مدينة المهدية القديمة، حيث كان نساج الحرير محمد إسماعيل لا يزال قابعا وراء عجلة الغزل التي تسير بأقصى سرعة.
ويحرص المصمم التونسي على الحصول على الأقمشة المميزة لتصنيعها وفي بعض الأحيان لتدويرها بهدف التوصل إلى منتج عالي الجودة وفي الوقت نفسه محلي الصنع بنسبة مئة في المئة.
وفي عالم الموضة الذي تهيمن عليه ماركات عالمية مثل “زارا”، “إتشأندأم” و”توبشوب”، يعود مصممون تونسيون مثل المشري بشكل متزايد إلى جذورهم، ويحتضنون الحرفيين المحليين والمواد المراعية للبيئة، وبفضل تقاليد صناعة المنسوجات العريقة في هذا البلد الشمال أفريقي، تعد تونس مكانا مناسبا تماما للأزياء البيئية التي يريدون التميّز فيها.
وقال إسماعيل الذي يقوم على امتداد 47 عاما بغزل الصوف والقطن من مصادر محلية، وكذلك خيوط الحرير المستوردة من الصين، “هذا العمل في دمائنا”.
وأضاف وهو يقوم بفك خيوط من الحرير القرمزي في ورشته “إنه عمل مشترك بين الأجيال، وبالنسبة لعائلتي، هذا العمل ثمين للغاية بالنسبة لنا”.
وقام المشري بتصميم فستان من الصفر لعلامته التجارية “ناي”، وجمع فيه بين النسيج التقليدي المتلألئ باللون الوردي والذهبي المستخدم في التطريز التونسي مع قماش من الستينات، ويصعب بيعهما وفقا للتاجر الذي اقتناهما المصمم التونسي منه.
وأشار المشري إلى أنهما “لا يتناسبان مع أذواق اليوم.. ولهذا السبب هم (تجار النسيج) يحتاجون إلينا، نحن المصممين لإعطاء حياة ثانية لهذه المواد”.
ووفقا لتقديرات مجموعة أكسفورد للأعمال، تعتبر صناعة النسيج البالغة قيمتها 2.6 مليار دولار ركيزة من ركائز الاقتصاد التونسي، وتوظف 160 ألف شخص وتنتج ما يقرب من 25 في المئة من إجمالي صادرات البلاد.
ومع ذلك، وبحسب البنك الدولي، تعد الموضة من أكثر الصناعات تلويثا في العالم، فهي مسؤولة عن إنتاج 10 في المئة من ثاني أكسيد الكربون على مستوى العالم، ويتم التخلص من عشرات الملايين من الأطنان من الملابس كل عام.
وتحول المشري وغيره من المصممين إلى الممارسة الصديقة للبيئة المتمثلة في “إعادة التدوير”؛ أخذ المواد القديمة أو غير المرغوب فيها وتحويلها إلى تصاميم جديدة وحديثة من خلال دمج الأقمشة عالية الجودة.
ويمزج المشري الأقمشة القديمة مع الأعمال اليدوية للحرفيين في جميع أنحاء تونس، من التطريز في تطاوين الواقعة في قلب الصحراء، إلى الخياطات في بنزرت شمال البلاد.

وأصبحت ماركات الأزياء في الغرب جادة بشأن إعادة التدوير أيضا، بما في ذلك العلامة التجارية الأميركية “بود”، والدنماركية الفرنسية “هوتيل” التي أسستها ألكسندرا هارتمان.
ولفت المشري إلى أن “الناس بدأوا يدركون التأثير السلبي لتلك الرغبة في الاستهلاك المستمر طوال الوقت دون التراجع، والتوقف قليلا للتفكير وطرح الأسئلة حول البيئة ومستقبل الإنسانية”، مؤكدا أن “الموضة هي طريقة ذكية لتكريم المواد المحلية”.
وكانت الرغبة في تكريم الأسلاف مهمة بنفس القدر بالنسبة إلى حسن بن عايش، الذي كان مختصا في تكنولوجيا الكمبيوتر والبالغ من العمر 26 عاما، والذي قام بتأسيس العلامة التجارية الراقية “باردو” بهدف إحياء تراث تونس والحرف التقليدية في عصر يواجه فيه الناس مخاطر بيئية جمة، بالإضافة إلى طمس بطيء لمعالم الفلكلور بسبب تنامي العولمة.
ويستحضر بن عايش في مجموعته الأولى صورا من قصر باردو الشهير في تونس وعصر البايات، حكام النظام الملكي التونسي الذي ألغي في عام 1957.
وقال بن عايش “أردنا العودة إلى فترة غالبا ما يتم تجاهلها وتجنب الحديث عنها.. أردنا أن نظهر أن هناك ما هو أكثر من القفطان، وأن نتعمق أكثر في تاريخنا وهويتنا”.
وفي عام 2018، أعاد رياض الطرابلسي إطلاق علامته التجارية الفرنسية التونسية “باسكوتير” ليثبت للصناعة أن الموضة المستدامة ممكنة على نطاق أوسع.
وتمتلك علامة الطرابلسي التجارية قاعدة زبائن متنامية في اليابان وكوريا الجنوبية وسيتم إطلاقها قريبا في إيطاليا.
وأشار الطرابلسي “نحن نرى أن هذا المفهوم أصبح معياريا.. إذا لم يكن مستداما، فهو ليس رائعا”.
ويشعر الطرابلسي أن تصميماته تعكس تعقيد الجالية التونسية الحديثة، موضحا “هويتي متشعبة، فأنا من أب تونسي وأم جزائرية، وولدت في فرنسا، أرسم هذا المزيج المذهل في تصاميمي.. أنا أتطور باستمرار، وأقوم بتجديد نفسي وفهمي للتراث التونسي كل يوم”.
وأفادت صوفيا غيلاتي، صحافية الموضة التونسية ومؤسسة “ميلي وورلد”، وهي منصة على الإنترنت تسلط الضوء على ثقافة الشباب العربي وفنونهم وأزيائهم، أن هذه العلامات التجارية تعتمد المصدر لإبراز الاختلاف.
وأضافت غيلاتي “تونس على رأس لوحة الإلهام: الأشكال الطبيعية، المواد الخام الجميلة.. وهذا ما تريده الأسواق العالمية والمحلية”، مشيرة إلى أن معظم التونسيين، الذين مازالوا متحمسين لحداثة ماركات الأزياء السريعة التي بدأت تصبح متاحة محليا خلال العقد الماضي، ليسوا واعين بالبيئة. ومع ذلك، فقد لاحظت اعتناق المزيد من الشباب التونسي لهويتهم الثقافية والتحول إلى العلامات التجارية المحلية.
وقال بن عايش إن صناعة المنسوجات التونسية التي لا تزال مزدهرة تمثل أملا لأولئك الذين اجتاحتهم الأزمة الاقتصادية المستمرة في البلاد، والتي تفاقمت بسبب جائحة فايروس كورونا.
وتابع “الصناعة تدعم الكثير من الأسر ذات الدخل الثابت حتى في المناطق النائية.. فالشركات التي تحقق التوازن بين الممارسات الصناعية الأخلاقية والحرفية تقدم لتونس أملا في غد أفضل”.