حروب الديمقراطية تدمر سلاح التعليم عن قصد

بعد سبعة عقود من الإعلان العالمي وأكثر من ستة عقود من نضالات مانديلا يقف الواقع اليوم على طرفي نقيض بين ما يتم التسويق له وما تخفيه أرقام الأمم المتحدة عن واقع التعليم اليوم ومصير الناشئة في غمرة الحروب والتحولات السياسية العنيفة التي تعصف بالمنطقة العربية وأفريقيا أساسا.
الأحد 2018/07/29
الأرقام لا تبشر بمستقبل مزهر لقطاع كبير من الناشئة

احتفل العالم في شهر يوليو بمئوية الزعيم الراحل نيلسون مانديلا، لكنّ قليلين من يستحضرون أن ذكرى العام الحالي تتقاطع أيضا مع إحياء الذكرى السبعين من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهي المناسبة ذاتها التي يتم فيها ترديد الحقوق الأساسية للإنسان وتذكير العالم بأولوياتها.

من بين الدعوات التي يحرص على إبرازها اليوم العالمي لنيلسون مانديلا، والذي خصصته الأمم المتحدة من كل عام لعرض نضالات الزعيم الجنوب أفريقي، هي دعوته إلى التضامن ومكافحة الفقر كأولوية قصوى من أجل الحرية والعدالة ولكن مع تشديده دائما على أن ذلك لا يتحقق من دون نشر التعليم.

في أي مرحلة من مراحل التحرر والبناء أو الانتقال الديمقراطي، يجري التذكير دائما بإحدى المقولات الشهيرة لمانديلا “التعليم يظل السلاح الأكثر قوة وفعالية أمام الشعوب التي تتطلع إلى التغيير”.

لكن بعد سبعة عقود من الإعلان العالمي وأكثر من ستة عقود من نضالات مانديلا يقف الواقع اليوم على طرفي نقيض بين ما يتم التسويق له وما تخفيه أرقام الأمم المتحدة عن واقع التعليم اليوم ومصير الناشئة في غمرة الحروب والتحولات السياسية العنيفة التي تعصف بالمنطقة العربية وأفريقيا أساسا.

وخلف كل ذلك ثمة معادلة لا تخلو من تعقيد وربما تقف وراءها سياسات تدميرية ممنهجة، وهي أن الحروب التي تسير باسم الديمقراطية أفرزت في المحصلة “صفرا” من تطلعات الشعوب مع تدمير مركّز للبنيات التحتية وتفكيك للمجتمعات وهجرات جماعية وجيل ضائع من الناشئة.

ومن أجل فهم أعمق لحجم الكارثة والمغالطة من خلف حروب الديمقراطية، فإن أرقام منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) تفيد بأن هناك ما يربو عن 13 مليون طفل حرموا من دخول المدارس في الشرق الأوسط بسبب الحروب والنزاعات وأن هناك ما يقارب التسعة آلاف مدرسة دمرت تحت القصف في تلك المنطقة.

وحتى تونس التي ينظر لها كملهمة لدول الربيع العربي، فإنه يحسب لها من جهة أنها تفادت حربا أهلية في بداية انتقالها السياسي، لكن من جهة أخرى فإن المحصلة ليست أفضل حالا في قطاع التعليم والمؤشرات الاقتصادية المتدنية.

ما تزال الطبقة السياسية تلقي باللوم في ذلك أساسا على نظام حكم هجين، ساهمت في إنتاجه، وتديره سلطة برأسين موزعة بين الرئاسة ورئاسة الحكومة، وهو نظام أوجد في الواقع طريقة حكم عقيمة بصلاحيات مشتتة بين مؤسسات الدولة ما عطل السير الطبيعي للإدارة في البلاد.

وما كان يفترض عبر الدستور الجديد أن يمهد لعملية تأسيس جديدة تقوم على تعميم مبادئ الجمهورية الثانية، فقد أعاق في الواقع الحكومات المتعاقبة منذ 2011 من أجل المضي قدما في الإصلاحات بسبب أزمة الصلاحيات وتنازع الاختصاص والتأخر الكبير في وضع محكمة دستورية تفصل في ذلك وتعثر جهود مكافحة الفساد والبيروقراطية.

والنتيجة أنه على عكس السياسات الأولى التي انتهجتها دولة الاستـقلال في خمسينات القرن الماضي مع الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة الذي عمم التعليم الإجباري والمجاني وخصّص ثلث موازنة الدولة لذلك من أجل صناعة رأسمال بشـري يغطّي الشح في الثروات الطبيعية، فإن هناك مخاطر عالية تواجهها مؤسسات الدولة اليوم بسبب ترهل التعليم وحـالة الاستنزاف الكبيرة للأدمغة والكوادر.

والأرقام وحدها تخفي مستقبلا مظلما ليس للديمقراطية الناشئة فحسب ولكن أيضا لقطاع كبير من الناشئة، إذا ما تم الأخذ بعين الاعتبار أن هناك ما يربو عن 100 ألف منقطع عن الدراسة مبكرا سنويا في المدارس التونسية وأن هناك ما يفوق 90 ألفا من الكوادر التي هاجرت البلاد منذ 2011 بجانب النقص الحاد حاليا لأعداد المعلمين والأطباء في المدارس والمستشفيات العمومية.

ربما تمثل تونس مثالا أكثر اعتدالا وسط السيء، غير أن  الدول الغنية نفسها ليست بمنأى عما يحصل في مناطق النزاعات والفقر، سواء بحكم التزاماتها الدولية للإنفاق أو تحت وطأة الضغوط التي تفرضها ظاهرة الهجرة. تريد الأمم المتحدة مثلا التزاما أكبر لضخ المزيد من المال بهدف إنقاذ 250 مليون طفل في العالم عاجزون عن القراءة والكتابة.

وحتى يتسنى سد الفجوات العالمية في حق التعليم في مراحله الأولى إلى حين دخول المدارس الثانوية، تطالب اليونسكو بتوفير ما لا يقل عن 8 مليار دولار سنويا، وهو رقم لا يمكن مقارنته بحجم الإنفاق العسكري الدولي الذي ناهز 1739 مليار دولار في عام 2017 بحسب معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (سيبري).

ومع تلك المفارقة الكبرى، فإنه من العبث الحديث عن قوة دفع دولية لتعميم الديمقراطية بكلفة لا تقل عن تدمير الدول ونسف كل شيء، فالتحدي الأكثر تعقيدا بعد ذلك هو البناء من الصفر، وليس هناك من رابح أول في هذه الحلقة المفرغة سوى شركات إعادة الإعمار!

4