حركتا نداء تونس والنهضة تحالف أم قصم ظهر
طبيعة العلاقة بين حركتي نداء تونس والنهضة ساهمت في تخريب حالة الوفاق السياسي التي كانت منتظرة، وكان جميع التونسيين يرنون إليها لا سيما بعد نجاح الحوار الوطني الذي قادته المنظمات الوطنية الأربع في إيقاف نزيف الأزمة السياسية الخطيرة التي عصفت بتونس بعد رفض حركة النهضة الانصياع للقانون الانتخابي وتسليم السلطة بعد زوال مدة السنة التي اتفق عليها التونسيون الذين تنادوا إلى انتخاب المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر 2011.
تعنّت النهضة وعصيانها القانون وخروجها على حالة التوافق العامة بكشفها عن رغبتها في الاستيلاء على الحكم، كلها عوامل دفعـت بالتونسيين إلى المقـاومة. فظهر فيهم قادة وزعماء تصدّوا لقيادة شعبهم قصد الإفلات من استبداد النهضة ودفعـوا دماءهم وحياتهم ثمنا لذلك على غرار الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي.
نضالات الشعب التونسي من أجل تصحيح المسار الانتقالي قطفت ثمارها حركتا نداء تونس والنهضة معا باتفاقهما على اقتسام السلطة إثر انتخابات 2014 التي التأمت بعد تأخير بسنتين عن موعدها الذي كان منتظرا لسنة 2012، وهما السنتان اللتان خسر فيهما الشعب التونسي فرصة تاريخية لتأمين نجاح تجربته الديمقراطية ووضع اللبنات الأولى للتنمية الحقيقية والتقدم وبناء دولة عصرية تقوم على احترام الحقوق والحريات والكرامة والعدل وتنسي التونسيين دولة الحيف والاستغلال والاستبداد والظلم بكل أشكاله التي كانت قائمة.
ولقد قدّرت حركة نداء تونس الفائزة بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية والفائز رئيسها بكرسي رئاسة الجمهورية، أن محاولة تدارك خسارات التونسيين لن تتحقق إلا بتحالفها مع حركة النهضة الحزب الثاني في الانتخابات خلافا للسائد في الديمقراطيات في العالم كلّه. ونجح الرئيس الباجي قائد السبسي في فرض رأيه على حزبه وتشكّلت حكومة محاصصة على يديه انتهت إلى كبوات جديدة زادت في إهدار مقدرات التونسيين وفي إفقادهم المزيد من فرص الخلاص عبر إغراقهم في القروض والتبعية وفقدان السيادة. المشكلة الأخطر على تونس وعلى مستقبل شعبها هي أن التحالف الظاهر بين حركة نداء تونس وحركة النهضة ليس تحالفا صادقا ولا استراتيجيا كما يردّد الرئيس السبسي، بل هو يخفي نوايا واضحة من كليهما لقصم ظهر الآخر. وهذا التحالف لم يخدم تونس ولم يحقّق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي ولم يحسّن صورتها في الخارج، إذ استمرت في احتلال المراتب الأولى في إنتاج المتشددين الإرهابيين وتصديرهم. كما ظلت تونس في حاجة دائمة إلى ضمان حكومة أجنبية كالحكومة الأميركية للحصول على قروض تسدّ بها حاجاتها الاستهلاكية.
المتأمّل في العلاقة بين الحركتين الأختين يمكن أن يرصد علامات كثيرة على إضمار كلّ واحدة منهما العداء وقلّة الثقة في الأخرى. ومن ذلك الاختلاف في تقييم رئيس الحكومة المطلوبة رأسه الحبيب الصيد وحكومته. فالرجل اختاره ورشّحه نداء تونس إرضاء من الندائيين للنهضة. ولكنه في تقديرهم انحدر تدريجيا إلى حضن النهضة لا سيما بعدما أصاب النداء من تفكك وصراعات وتصدّعات أفقدت الصيد سنده الذي رشحه، فاضطرّ إلى الانحياز إلى السند الثاني القوي حركة النهضة.
وخطأ الصيد أنّه توهم أنّ الحزبين حليفان وأنّهما ينسجمان مع الشعارات التي يرفعانها مثل المصلحة الوطنية وتونس أوّلا ودولة القانون. ولكنّه صدم بكون نداء تونس لم يغفر له ميله للنهضة، بل حمّلوه جزءا كبيرا من أزمة حزبهم وصار شقّ نجل الرئيس يطالب برأسه ونفّذ له أبوه طلبه بمبادرة حكومة الوحدة الوطنية التي أطلقها يوم 3 يونيو 2016 الماضي.
كما تتّفق الحركتان حول تبرير أزمة الحكم في تونس، ولكنّ ذلك لا يعني توافقا تاما واشتراكا في تحمّل المسؤولية لأنّ ذلك يقتضي الاستقالة من الحكم أصلا. وإنما الغاية من وراء ذلك تختلف بين الحركتين، فالنهضة تريد أن تدفع نداء تونس إلى الانكسار على نفس الصخرة التي تكسّرت عليها، ونداء تونس يرغب في تثبيت فكرة كان يجاهر بها أيّام حكم الترويكا وصار يسرّ بها اليوم، ومفادها أنّ النهضة خلّفت له تركة ثقيلة من الفشل والديون وسوء الإدارة لا فكاك منها.
وللتذكير فإبّان حكم الترويكا سيطرت النهضة على الإدارة وأغرقتها بالتعيينات. واليوم يخطّط نداء تونس لنفس الأمر رغبة في تدارك سيطرة النهضة على مفاصل الإدارة بزرع أتباعه في المواقع الحكومية والإدارية والسياسية الحساسة، لسدّ المنافذ أمام وزراء النهضة المنتظرين في الحقائب التي سيتولونها في الحكومة المقبلة. وهو ما يعني أنه سيكون هناك نوع من الانسداد أو التعطيل المخطّط له في عمل وزراء الحكومة المقبلة.
كما تشترك الحركتان في تبرير التراخي الاقتصادي بالاحتجاجات النقابية وتوجيه التهمة إلى الاتحاد العام التونسي للشغل. ولكنهما تتنافسان، سرّا وعلانية، في استمالة الاتحاد والتقرّب منه والتسلل إلى داخل هياكله عبر النقابات المهنية. والاتحاد يلاعب كلتيهما فيحضر المؤتمر العاشر لحركة النهضة دون بقية الأحزاب من جهة، وهو إكرام لم ينله نداء تونس وضنّ به الاتحاد على الجبهة الشعبية، ويخفّ لتلبية دعوة السبسي إلى مناقشة مبادرته ويكون من أوائل الممضين على ميثاق قرطاج من جهة ثانية.
كما تشترك الحركتان في العزم نفسه على تدارك البطء في تنفيذ الأجندة المفروضة من قبل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي تحت مسمى حزمة الإصلاحات الضرورية للنهوض الاقتصادي. ولكن النداء يسارع بعرض القوانين ذات الصبغة المالية كالقروض وقانون المصالحة الاقتصادية والمالية وقانون البنوك أمام البرلمان، بينما تعمل النهضة على تمرير قانون الصيرفة الإسلامية وقانون الفضيلة تحت مسمّى قانون التحرش بالنساء القديم المعاد إحياؤه. وهنا تقع المضاربة والمساومة البرلمانية بين الحركتين، إذ تتبادلان الأدوار وقد تطرح كتلة منهما قانون الكتلة الأخرى وتدافع عنه مخاتلة لنوّاب المعارضة واستمالة لهم.
الأكيد أنّ تونس ضحية لهذا التحالف المغشوش بين الحركتين الأختين العدوّتين اللتين تمسك كلّ منهما خنجرها تحت ثيابها وهي تمدّ يدها للأخرى. وتحالفهما هو استمرار لخديعة كبرى انبنت عليها انتخابات 2014 هي نظرية التصويت المفيد. فالتحالف لا يخفي صراعا فقط بل تعاديا، وهو ما ضرب حكومة الصيد وشلّها، وسيضرب الحكومة المقبلة ويعدم جهودها قبل أن تبدأ في العمل.
تونس اليوم يتصدّر ملعبها نفس اللاعبين بالخيارات الاقتصادية والاجتماعية نفسها وبحركتين سياسيتين حاكمتين متعاديتين تفتقران إلى الحدّ الأدنى من التضامن والمسؤولية. فلا واحدة من الحركتين المتصدّرتين للمشهد ترى غير نفسها؛ حركة النهضة لم تصدّق أنّ تونس صفحت عن عنفها وتفجيراتها ومحاولتها الاستبدادية زمن الترويكا، وتسهيلها تركّز الإرهاب في تونس وإضاعتها لفرصة تونس في النموّ والتقدّم ومسؤوليتها على دماء الشهداء، وتعرف جيدا أنّ التونسيين لم يسلموا بعد بزيّها المدني الذي تتزيّن به في العلن فقط، وحركة نداء تونس لا تثق في أنّ التونسيين أزالوا سوءات النظام القديم الذي ترثه من ذاكرتهم. وتونس تدفع الثمن وجراحها تتعمّق.
كاتب وباحث سياسي تونسي