حركتا النداء والنهضة وأخلاق الأزمة التونسية

الجمعة 2016/07/01

أين تكمن أزمة تونس؟ هذا هو السؤال الفلسفي الذي على النخب التونسية أن تتطارحه. فلقد صار من الممجوج الاكتفاء بحصر أزمة تونس في تعطّل التنمية وجمود النمو واستفحال البطالة وتوطّن الإرهاب وجرائم التهـريب والتهرب الجبـائي. فالحقيقة أن هذه الأمور التي كنا بصدد سردها ليست أصولا، وإنما هي مظاهر وعلامات لأزمة أعقد وأعمق هي أزمة أخلاقية يجب أن تناقشها الجامعات ومراكز البحث والجمعيات والمنظمات، بعيدا عن الأحزاب التي غلبت عليها الانتهازية وغاب عنها الوعي والأخلاق السياسية.

فبعد شهر كامل من إعلان رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي عن المبادرة القاضية بدعوته إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية بديلة عن حكومة الائتلاف الرباعي التي يرأسها الحبيب الصيد، عادت حركتا نداء تونس والنهضة للحديث عن اعتبار نتائج انتخابات 2014 مرجعا رئيسيا للنقاش حول الحكومة. والسامع لهذا الرأي قد يعتقد أن الحكومة الحالية ليست وليدة نتائج انتخابات 2014، وأن رئيس الحكومة الحالي ليس مرشحا من قبل الحزب الفائز وهو نداء تونس.

من المحزن أنّ يقف التونسيون على أنّ الحزبين صاحبي الأغلبية، النداء والنهضة، لم يهمهما من الأزمة التي تردّت فيها تونس إلا الحفاظ على مواقعهما ومناصبهما وامتيازاتهما التي تأتّت لهما بفضل ثقة الشعب التونسي التي منحها لهما عبر الصندوق الانتخابي.

لا أحد ينكر نتائج الانتخابات ولا أحد تنكّر لها أو حاول الانقلاب عليها بما في ذلك القوى التقدمية الثورية لأنها متمسكة بالديمقراطية وتصارع الائتلاف الحاكم وتواجه خياراته اللاوطنية عبر المؤسسات الدستورية وهوامش التحرّك التي يتيحها القانون. ولكنّ التونسيين كانوا يأملون في أخلاق سياسية رفيعة تقوم على وعي وطني عميق يقدم مصلحة الوطن على مصلحة الأحزاب مهما كانت التنازلات. ولكنّ الحزبين الأغلبيين افتقرا إلى هذا الوعي في المحطات الحاسمة التي وضعا فيها أمام اختبارات المصلحة والمسؤولية مثل أزمة الترويكا سنة 2013 وأزمة الائتلاف الرباعي سنة 2016.

فراشد الغنوشي كان يبرر لأنصاره قبوله بالخروج من الحكم مطلع سنة 2014، عقب الحوار الوطني الذي جُرّ إليه جرّا، بأنه تنازل شكلي فرضته الضرورة. وكان يصرّح في اجتماعاته الحزبية مع أنصاره في مختلف المستويات بأنه هو الحاكم الفعلي لتونس وأن الوزراء الذين تولّوا الحقائب في حكومة مهدي جمعة التي أعقبت حكومة علي العريض الفاشلة طلعوا من تحت جبّته وسيضمنون مصالح حركته أكثر من وزراء النهضة أنفسهم.

حديث شبيه بهذا يتردّد اليوم من قبل النداء والنهضة فحافظ قائد السبسي، المدير التنفيذي لحركة نداء تونس، عوض أن يتحيّن الفرصة لتقديم النقد الذاتي والتقييم الصحيح لحزبه وأن يطرح أمام التونسيين كل المعلومات والمعطيات الإحصائية المتعلقة بحصيلة أداء الحزب منذ ظهور نتائج الانتخابات إلى 3 يونيو الماضي تاريخ إعلان السبسي الأب عن مبادرة حكومة الوحدة الوطنية، إلا أن كلّ هذا لم يحدث بل حدث عكسه إذ نعاين تضامنا لافتا بين النداء والنهضة في الالتفاف على حقّ الشعب التونسي في محاسبة من حكموه ولم ينصفوه وأهدروا فرصه في النموّ والتقدّم. هذا التضامن واضح في تأكيد حركة النهضة على ضرورة احترام نتائج انتخابات 2014 في أيّ خطوة نحو تغيير الحكومة، وهو ما يعني الإقرار بحقّ النداء في اختيار رئيس الحكومة وفي تحديد مهامه.

طبعا الحركتان المتحالفتان ترغبان في تمييع ما حدث للنداء من انقسامات واعتباره هامشا على أصل ديمقراطي تتمسك الحركتان به. المؤسف أنهما تتعاملان مع الديمقراطية كأصل تجاري يباع بمقابل، حتى وإن كانت الشركة أو المؤسسة مفلسة أو مرهونة.

إنّ واقع تونس اليوم مرعب، فأكثر من 25 بالمئة من التونسيين يعيشون تحت خط الفقر. ويوجد في تونس اليوم أكثر من 40 ألف متسول نصفهم أطفال يتعرضون لكل أشكال الانتهاك والاعتداء آخرها كان فضيحة اغتصاب 41 طفلا منهم من قبل سائح فرنسي تمكّن منهم بواسطة عصابة تتاجر بالبشر.

كل أصناف الجريمة موجودة في تونس اليوم. والهواة صاروا محترفين. والذئاب المنفردة صارت عصابات ومافيات لم تعد تخشى الظهور العلني، بل تتجرّأ وتهدّد الخبراء والناشطين المحذرين من مخاطر التهاوي الاقتصادي المريع بسبب الفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة ويأكل أكثر من 52 بالمئة من مقدرات التونسيين.

إنّ دولة المافيا صفة لم تعد بعيدة عن تونس بفضل خيارات النداء والنهضة التي تكرّس الفساد وتشجع عليه مهما كانت النوايا. الأسبوع الماضي تلقّى أحد الخبراء الاقتصاديين رسالة تهديد بالتصفية، إذا لم يتوقف عن التحذير والتنبيه والدعوة إلى إصلاح المنظومة الاقتصادية بالإجراءات والتشريعات والخيارات. وهذا هو التهديد الأول من نوعه الذي يحدث في تونس. فبعد أن ألفنا التهديد التكفيري بالتصفية في حكم النهضة، ندشن اليوم التهديد الاقتصادي بالتصفية في حكم النداء والنهضة معا.

كلّ هذا لم يزعج حركتي نداء تونس والنهضة. ولم يدفعهما إلى التقييم والمصارحة والاعتراف والاعتذار. بل أصرت الحركتان على أن تظهرا للشعب التونسي ما تعيشانه من أزمة أخلاقية ناتجة عن خلل في الأخلاق السياسية كان يجب أن تصل الديمقراطية ضرورة بملازماتها الجدلية المعروفة في الديمقراطيات الراسخة، من ذلك أخلاق الاعتراف بالفشل والإقرار بالعجز متى حصل مهما كانت نتائج الانتخابات. وهذا نعاينه في التجربة البريطانية الأخيرة التي قرّر خلالها الشعب البريطاني الخروج من الاتحاد الأوروبي فاستقال رئيس الوزراء.

الديمقراطية يجب أن تكون مقرونة بالوعي الوطني وبالأخلاق السياسية التي ذكرناها وبالشعور بالمسؤولية حتى تكون ذات جدوى وتحترم فعلا إرادة الشعوب، وتدلّ أيضا على أحقية الفائز انتخابيا بالثقة التي نالها من الشعب. أما النداء والنهضة فيتعاملان مع الفوز الانتخابي تعاملا ميتافيزيقيا، بمعنى أن ثقة الناخبين ليست تفويضا على أساس برنامج حكم، وإنما هي تفويض غيبي يلغي إرادة الشعب بل يسلبها من مانحيها الحقيقيين ويصادرها طيلة فترة نيابية كاملة مهما كانت المؤشرات والأزمات والسقطات.

الواضح مع هذه الأخلاق السياسية التي كشف عنها الحزبان صاحبا الأغلبية في تونس ألا خلاص في المدى القريب لهذا الشعب الجدير بحياة أفضل. فمبادرة السبسي لن تنقذ تونس لأنّ عمودها الفقري هو عناصر الفشل نفسها المصرّة على نفس الخيارات والتوجّهات. قصارى المبادرة سيكون تغيير حكومة الصيد بحكومة أخرى محكوم عليها بالفشل مسبقا لكل الاعتبارات التي حللناها في هذا المقال. وهو ما قد يجعل الحلّ القادم بيد الشعب التونسي وحده لا بيد أيّ طرف آخر مهما كانت رمزيته ومنصبه.

كاتب وباحث سياسي تونسي

8