حركة النداء تقود تونس إلى الإفلاس وفقدان السيادة

الجمعة 2016/06/17

عندما تشكّلت حركة نداء تونس كانت مخفورة بهالة إعلامية قدمتها على أنها الحركة التي ستضمن التوازن السياسي في تونس مع حركة النهضة التي كانت قد ابتلعت المشهد السياسي منذ 2011 بسبب المدّ الإخواني القادم من الشرق.

خلف حركة نداء تونس كانت تقف آلة إعلامية ضخمة تتكوّن من فضائيات وإذاعات وصحف ومدونات رقمية والآلاف من المجموعات على شبكات التواصل الاجتماعي. نجحت تلك الآلة الإعلامية لنداء تونس في حصر التنافس السياسي ثم الانتخابي بين مشروعين أحدهما رجعي تمثله حركة النهضة يجب مقاومته، والثاني حداثي مدني ديمقراطي تقوده حركة نداء تونس يجب مساندته. وما على البقية إلا الالتحاق بأحد المشروعين.

وعلى أساس هذا التكتيك وقع الفرز السياسي في تونس وتم تناسي شعارات الثورة وأهدافها. وكان منظرو نداء تونس من السياسيين والمثقفين كلما وجدوا أنفسهم أمام سؤال التنمية والعدالة الاجتماعية والجبائية والتشغيل يذكّرون بخطر المشروع الإخواني، ويدعون إلى تعليق الحديث عن شعارات الثورة وأهدافها وتأجيلها إلى ما بعد الحسم في المشروع الإخواني.

وباعتبار أنّ مكاسب تونس المدنية وأسس دولتها العصرية مهددة حسب تكتيكها الإعلامي، استعملت حركة نداء تونس في انتخابات 2014 آلية “التصويت المفيد” وهي آلية حديثة انبنت أساسا على العامل النفسي القائم على تخويف الناس ودفعهم إلى مكاتب الاقتراع يدفعهم الفزع وغموض صورة المستقبل عندهم عوض أن يدفعهم الأمل.

ولدت الحركة بمقر ضخم في منطقة البحيرة الراقية بالعاصمة وإدارة كاملة وموظفين وما يستحقه كل ذلك من أموال تقتضي ضخا كبيرا من السيولة لا أحد يعرف مصدرها إلى اليوم في غياب المساءلة والمحاسبة في تونس. وقامت الحملة الانتخابية لنداء تونس على التهويل والتمويه وبذر الوعود بسخاء، من ذلك تشغيل 500 ألف عاطل عن العمل في خمس سنوات، وتركيز أقطاب تكنولوجية ومجامع اقتصادية في كل الجهات، ونشر المشاريع التنموية الكبرى في الجهات المحرومة وتحقيق العدالة الجبائية. وقال رئيس الحركة إبّان الفوز بالأغلبية النيابية إن لدى حزبه ما يكفي لتشكيل أربع حكومات وقيادة أكثر من بلد.

وأثناء الحملة الانتخابية، كان الانحياز الإعلامي واضحا عند بعض المؤسسات خلافا للقانون حتى أن أحد مديري الفضائيات الخاصة اعترف بالإشهار لحركة نداء تونس وبالترويج لحملتها الانتخابية وهو الاعتراف الذي أقر به قادة نداء تونس. ثم بعد الانتخابات كشف هذا المدير نفسه عن انتمائه إلى الهيئة السياسية للنداء، ولكن مع ذلك كله كانت الهيئة العليا المستقلّة للاتصال السمعي البصري هيئة لا ترى ولا تسمع رغم أنها هيئة دستورية.

بعد الانتخابات تراجعت شعارات التوازن السياسي والمشروع الحداثي والمحافظة على المكاسب المدنية لتونس، لتترك مكانها لشعارات الواقعية والتعاطي مع نتائج الانتخابات بما مهد لتغيير العلاقة مع حركة النهضة من خصم بل عدو لا تلاقي معه، إلى شريك فحليف استراتيجي لا قيام دونه.

فشعارات الواقعية والتعاطي مع نتيجة الانتخابات التي فرضت التحالف بين حركة نداء تونس وحركة النهضة قامت على إيهام نداء تونس بأن مصلحة تونس هي في هذا التحالف، باعتبار أنه يضمن الأغلبية البرلمانية الكاسحة ويتمتع نظريا بالامتداد الاجتماعي والعمق الشعبي.

ولكن الخيار الذي اختارته حركة نداء تونس بإيعاز وإلهام من رئيسها ومؤسسها الباجي قائد السبسي لم ينجح، بدليل أن كل الأرقام والمؤشرات سلبية. فمعدل النمو لم يتجاوز 0.5 بالمئة، ونسبة التداين تجاوزت 53 بالمئة، وحجم التجارة الموازية بلغ 55 بالمئة، والمشاكل الاجتماعية التي علقها التكتيك الانتخابي لنداء تونس لم تُحلّ بل تفاقمت وعلى رأسها تعطل إنتاج الفسفاط في الحوض المنجمي وتعثر عمل المجامع الكيمياوية والمحطات البترولية في جهات قابس وقرقنة. والمشاريع التنموية الكبرى لم تبدأ. ولهيب الاحتجاجات الاجتماعية يتنقل من بؤرة إلى أخرى والحكومة ترفع العصا وتطلق الغازات المسيلة للدموع.

ومن أسباب هذا الفشل الذريع للتحالف الاستراتيجي بين حركة نداء تونس وحركة النهضة أنه تحالف قائم على غير رؤية ولا برنامج، إذ لم تكن هناك نية للتدقيق في ديون تونس. ولم توجد خطة دبلوماسية لاستعادة أموال الشعب المنهوبة والمهربة إلى الخارج. وغابت عن الحليفين سياسة خارجية واضحة لتونس خارج دائرة المحاور.

ولذلك تشكلت حكومة محاصصة حزبية تمّ اختيار رئيسها بالصدفة كما كشف أحد قياديي النداء مؤخرا، إذ أن الحبيب الصيد كان قد دعي لتعرض عليه حقيبة الداخلية التي كان قد تولاها سنة 2011 مع حكومة الباجي قائد السبسي المؤقتة. ولما حضر إلى مقر الحزب خطرت للمدير التنفيذي وقتها رضا بالحاج فجأة فكرة أن يكون الحبيب الصيد مرشح النداء لرئاسة الحكومة بعد أن عزّت الحلول وعجزت الحركة عن أن تقدم مرشحا بالمواصفات المطلوبة. ولم يجد الصيد من برنامج تطبقه حكومته ففاجأ الجميـع حين طلب من وزرائه، الذيـن لا ينتمي أغلبهم إلى القطاعات التي وضعوا على رأسها وإنما المحاصصة اقتضت ذلك، أن يعـد كل وزير برنـامجا من 10 نقاط لوزارته في عشرة أيام. وكان هذا الطلب كافيا ليقيم الدليل على أنّ الحكومة ولدت خطأ وستعيش في هامش الخطأ الذي لن يطول.

أمّا السبب الرئيسي للفشل فيعود إلى داخل حركة نداء تونس نفسها، إذ منذ فوزها الانتخابي الكاسح اشتعلت فيها الخلافات على المناصب. وبدأت صراعات اللوبيات تنخرها. تجلت هذه الصراعات في مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية الذي طرحه السبسي منذ سنة والذي بدا كنوع من وعد ينفذ لمن دعم الحركة ومولها. ولكن المعارضة اليسارية والقوى الاجتماعية والديمقراطية أسقطت القانون دستوريا.

وانتهت الحركة إلى الانفجار والانقسام المروع في مؤتمرها التأسيسي مطلع السنة الحالية. وانقسم الحزب إلى حزبين متصارعين وحزيبات متناثرة هنا وهناك. أما الرئاسة فظلت تتخلص من أذرعها القوية الواحدة تلو الأخرى، ابتداء بمحسن مرزوق الوزير المستشار لدى رئيس الجمهورية ورئيس الحملة الانتخابية للحركة، وانتهاء برضا بالحاج المدير التنفيذي السابق للحركة ثم مدير الديوان الرئاسي ثم رئيس الهيئة السياسية للنداء في صيغته الجديدة بعد مؤتمر سوسة، فالمستقيل مؤخرا من الحزب.

غادر الجميع نداء تونس ليظل القائد الأول لسفينته هو نجل الرئيس حافظ قائد السبسي بما يؤكد تهمة طالما نفاها الرئيس ونجله ألا وهي تهمة التوريث. وأكدت الأخبار المسربة من داخل الحركة أن قرار التخلي عن الحبيب الصيد كان قرار حافظ قائد السبسي بعد صراع مصالح مع رضا بالحاج.

وهنا تتنزل مبادرة رئيس الجمهورية بتشكيل حكومة وحدة وطنية، إذ تحقق هدفين؛ الأول عبر عنه الرئيس نفسه إذ أنه تفاعل مع مبادرة المعارضة ولكنه تفاعل التفافي حوّل مبادرة حكومة الإنقاذ التي طرحتها الجبهة الشعبية إلى حكومة وحدة وطنية، والثاني لم يقله ألا وهو الاستجابة لقرار نجله وحزبه الذي أورثه إياه القاضي بالتخلي عن الحبيب الصيد.

ولكن اللعبة ليست بهذه السهولة فإعلان الرئيس السبسي عن حكومة الوحدة الوطنية عطل القليل الذي كان متحركا في تونس وأعاد الشارع التونسي إلى الريبة والخوف، بينما المعارضة متوثبة للدفاع عن الثورة وأهدافها، والاتحاد العام التونسي للشغل أكّد انحيازه للشعب وحقوقه ومطالبه، وحركة النهضة تتأهب لاستعادة الحجم اللائق بها في الحكومة باعتبارها الحزب الأول في مجلس نواب الشعب.

إن تونس على حافة الإفلاس ووزير المالية ومحافظ البنك المركزي يكتبان رسائل النوايا لرئيسة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد التي لم ترض إلى حد الآن على استمرار عجز الحلف الندائي النهضوي في إخضاع الاقتصاد التونسي بالكامل لسياسة صندوق النقد والبنك الدولي. النداء ادعى أنّ تونس نادته لإنقاذها وتحقيق التوازن، لكنه يغرقها في الإفلاس والتبعية وفقدان سيادتها على قرارها الوطني.

كاتب وباحث سياسي تونسي

9