حرب لن تحسمها المفاوضات

أكثر من 500 يوم منذ انطلاق الغزو الروسي لأوكرانيا والذي لا يزال مستمرا غاص خلالها بوتين في الوحل وغاصت معه روسيا بعد أن أصبحت نقطة الانطلاق غير مرئية وقرار التراجع أمرا يعني "الهزيمة".
الخميس 2023/07/13
عملية روسيا العسكرية لم تثن حلف الناتو عن تزويد أوكرانيا بالسلاح

قبل الانتخابات الرئاسية الروسية في سنة 2000 أجرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حوارا مع الصحافي ديفيد فروست لهيئة الإذاعة البريطانية قال فيه “روسيا جزء من الثقافة الأوروبية، وأنا لا أعتبر بلدي بمعزل عن أوروبا وعما نتحدث عنه غالبًا على أنه العالم المتحضر. ولذلك، فإنني أتخيل بصعوبة أن الناتو هو عدو”.

أردت التذكير بمقتطف من هذا الحوار لأضعكم أمام حقيقة مفادها أنه مهما حاول بوتين أن يقنع نفسه بأن روسيا تسير في الطريق الصحيح وأن ما تمر به سيجعلها أكثر قوة لا يمكنه إخفاء حقيقة أن روسيا اليوم تعيش عزلة إقليمية تبتعد فيها عن مكانها الطبيعي، وتسير في نفق مظلم كان من الأحسن تجنبه، قياسا بما خلفه من أضرار بالغة على الاقتصاد الروسي بعد انسحاب المئات من الشركات الأجنبية وحرمانها من نظام سويفت ومن استقطاب السياح الأوروبيين.

حصل كل هذا من دون أن تأتي تلك التضحيات بثمار، أو أن تتمكن من إجبار الغرب على التراجع وترك أوكرانيا تواجه مصيرها، بل على العكس من ذلك أصبحت مسألة دعم أوكرانيا مسألة شبه مقدسة لدى الحكومات الغربية وفي مقدمتها أميركا رغم تعرضها لوابل من المعارضة الشعبية التي ترى أن الدعم لا ينبغي أن يكون على حساب جيوبها.

◙ الطرف الأكثر حاجة إلى مفاوضات لتجنب الهزيمة هو بوتين، وأن الغرب أصبح أكثر إصرارا على استمرار الحرب وهزيمة الروس بغض النظر عن التكلفة والمدة الزمنية

500 يوم منذ انطلاق الغزو الروسي لأوكرانيا والذي لا يزال مستمرا بين كر وفر وتقدم سرعان ما يليه تقهقر، تبقى الأمور على حالها ويزداد إصرار الطرفين، أي الغرب وروسيا، على حسم المسألة عسكريا في ظل غياب عملية سلام جدية من شأنها أن توقف الفاتورة الباهظة للعقوبات على روسيا وعلى الغرب الذي يدعم أوكرانيا بسخاء بدفتر شيكات على بياض تاريخها مفتوح.

غاص بوتين في الوحل، وغاصت معه روسيا، بعد أن أصبحت نقطة الانطلاق غير مرئية وقرار التراجع أمرا يعني “الهزيمة”، ثم قفز يفغيني بريغوجين من القارب قبل أن يغرق في تمرد انتهى ظاهريا، ولكن ارتداداته على الجبهة الداخلية ستبدأ بالظهور مع مرور الوقت، مهما حاولت البروباغندا الإعلامية أن تضع مساحيق التجميل وتصف ما حدث بعملية التنظيف التلقائية لروسيا من الخونة.

وبعد أن كان قرار بدء الحرب قرارا روسيا أصبح قرار إنهائها مرهونا بمدى قابلية الغرب لجلوس أوكرانيا على طاولة المفاوضات، وهو أمر لا تريده الولايات المتحدة لأنها ترى في الخطأ الإستراتيجي الذي قاد بوتين إلى أوكرانيا فرصة لا يمكن تفويتها لإضعاف روسيا ولإنهاء ما تبقى من مشروع عودة الدولة السوفياتية الذي يحلم به “القيصر”.

كان من الخطأ الكبير اعتبار أن موقف الغرب وتساهله مع عملية الغزو الأصغر على جزيرة القرم خشية من حجم الضرر في مجال الطاقة الذي كان سيترتب عن معاقبة روسيا سيكون نفسه أثناء تنفيذ عملية الغزو الأكبر.

المتعاطفون مع بوتين توقعوا أن جنوده ذاهبون في نزهة إلى كييف، وأن مسألة سقوط نظام فولوديمير زيلينسكي ستكون سريعة وشبيهة بعملية سقوط صدام حسين. لم يتوقع المحللون العسكريون على اختلاف مواقفهم أن تطول الحرب بمثل هذا السيناريو، ولكنهم أجمعوا على أن العالم مقبل على حقبة سوداء سيدفع ثمنها البسطاء على بعد آلاف الكيلومترات، ذلك لأن الحروب دائما ما تأتي بانعكاسات سلبية على أسواق الغذاء والطاقة يستفيد منها الأقوياء ويتضرر منها الضعفاء.

◙ مسألة دعم أوكرانيا أصبحت مسألة شبه مقدسة لدى الحكومات الغربية وفي مقدمتها أميركا رغم تعرضها لوابل من المعارضة الشعبية

توقف إطار العملية العسكرية لدى بوتين عند ضم إقليم دونباس وإعلان قيام جمهوريات الموز، بعد استفتاء صوري تم تحت تهديد السلاح. لكن ذلك لم يشفع بأن تنتهي الحرب من جانب واحد، ذلك لأن المقاومة الأوكرانية المدعومة غربيا لا يمكنها أن تسمح لبوتين بأن يسترجع قواه مجددا ليخلق هو أو غيره بعد سنوات أسبابا جديدة للمضي في حرب جديدة، ربما يتم الحديث فيها عن استرجاع يوغوسلافيا، فالخسارة في أوكرانيا تعني إطلاق العنان لنزعة روسيا التوسعية المستوحاة من الفكر السوفياتي.

دائما ما تشن الحروب عندما تتوفر الأسباب أو تخلق الدولة المهاجمة تلك الأسباب لتبرير حربها، أما نتائج الحرب فقد تكون إما فوزا عندما يتم تسقط الدولة المهاجمة نظام “دولة العدو”، أو فشلا عندما تتراجع الدولة المهاجمة ويصبح الهجوم عكسيا، أو لا غالب ولا مغلوب عندما تحسم المفاوضات الحل بين الطرفين. وفي حالة روسيا فإنه وبالنظر إلى الأسباب التي انطلق بها بوتين لتبرير غزوه والتطورات الميدانية الحاصلة في أوكرانيا، لا يمكن إنكار أن روسيا اليوم في ثوب الخاسر، ذلك لأن عمليتها العسكرية لم تثن حلف الناتو عن تزويد أوكرانيا بالسلاح، ولا عن نشر أسلحة هجومية بالقرب من حدود روسيا، بل أن الناتو أقدم على توسيع حدوده مع روسيا من خلال انضمام فنلندا في عز الحرب الروسية في أوكرانيا.

يتأكد لنا من خلال مجريات الحرب أن الطرف الأكثر حاجة إلى مفاوضات لتجنب الهزيمة هو بوتين، وأن الغرب أصبح أكثر إصرارا على استمرار الحرب وهزيمة الروس بغض النظر عن التكلفة والمدة الزمنية.

9