حرب غزة التي قد تؤدي إلى "أوسلو"!

الهدنة هي استراحة لإسرائيل من دوار حربها وضغوط أصدقائها. هي ذهبت بعيدا في جرائم الحرب إلى حد أنها كانت ستطلب هدنة حتى بدون عذر تبادل الأسرى والرهائن.
الجمعة 2023/12/01
الحرب حولت القضية الفلسطينية المنسية إلى قضية إنسانية

ثلاثون سنة مرت على اتفاق أوسلو، بين إسرائيل والسُّلطة الفلسطينية، والذي نتج عن مفاوضات عسيرة وطويلة بدأت سنة 1991، في نهايتها اتَّفق الطرفان برعاية أميركية، على “حلِّ الدولتيْن” للنِّزاع الإسرائيلي – الفلسطيني. وتضمَّن الاتفاق المراحل التي تفضي إلى ذلك الحلّ، في أمَد خمس سنوات، ولكلّ مرحلة ترتيباتها، وصولا إلى الاتفاق النهائي، وضمنه مآل القدس واللاجئين. الاتفاق وقّع في واشنطن في سبتمبر من سنة 1993 بحضور بيل كلينتون، وياسر عرفات وإسحاق رابين، ووقعه كل من محمود عباس أبومازن، أمين سر اللجنة التنفيذية عن السلطة الفلسطينية، وشمعون بيريز وزير خارجية إسرائيل.

خلال السنوات الثلاثين لم تعمل إسرائيل إلاّ على نَقْض الاتفاق ومحْو بنوده، بتمزيق الخرائط التي أُقِرّت فيه عبر التوَسُّع في الاستيطان، بما قَضَمَ الكثير من الأراضي الفلسطينية للحكم الذاتي. وبإعلانها من طرف واحد القُدس عاصمة لدولة إسرائيل، وهي من قضايا الحلّ النهائي، وطبعا بحروبها ضد الشعب الفلسطيني، في غزة وفي الضفة الغربية، الشاملة، المُتكررة والرّهيبة، أو تلك الحروب اليومية والقمعية والأمنية والاقتصادية، وضمنها حصار قطاع غزة.

أهالت إسرائيل على “اتفاقيات أوسلو” دمَار تطرُّفها.. ألغتها من قاموسها وممارساتها السياسية تجاه الشعب الفلسطيني وسلطته وفرضت، بدعم حلفائها، تجاهل تلك “الاتفاقات” في التعاطي الدولي مع القضية الفلسطينية.

◙ الهدنة هي استراحة لإسرائيل من دوار حربها وضغوط أصدقائها. هي ذهبت بعيدا في جرائم الحرب، إلى حدّ أنها كانت ستطلب هدنة حتى بدون عذر تبادل الأسرى والرّهائن

حركة حماس عارضت اتفاقيات أوسلو، بحماس. ولعلّ مُعارضتها تلك شكلت سببا هاما من أسباب صِراعها ضد السلطة الوطنية الفلسطينية، واسْتِئثارها بالتحكُّم في قطاع غزة. وهو الوضع الذي عمّق الخلافات الفلسطينية وعطّل وحدة الفصائل الفلسطينية. تلك الوحدة التي لم تنجح عشرات المحاولات والوساطات العربية في استعادتها وتحقيقها.

في يوم 7 أكتوبر فجَّرت حماس، بـ“طوفان الأقصى”، الغضب الفلسطيني من الاستفراد الإسرائيلي بالشعب الفلسطيني، بقمعه وبقهره وبسياساته التي هدفت إلى إبادته وتهجيره من أرضه إلى حدّ انتهاك حرماته الدينية والوطنية والتضييق عليه حتى في رفع العلم الفلسطيني في مدنه وقراه، لأن إسرائيل تحلّلت من التزامها باتفاقيات أوسلو وسمحت لنفسها بالدوس والعربدة على الحق الوطني الفلسطيني وعلى حق المواطن الفلسطيني في أساس الحياة الكريمة. وكان “طوفان الأقصى” صرخة الشعب الفلسطيني ضد الطغيان الإسرائيلي والقائم على تجريد الفلسطيني من حقه في وطنه، بل وحقه في الحياة، والذي يخترق كل حدود المبادئ الإنسانية وكل المواثيق والاتفاقات الدولية.

تلت 7 أكتوبر، هذه الحرب الرّهيبة والهمجية التي تشنُّها إسرائيل في قطاع غزة وفي مُدن وقُرى الضّفة الغربية. حرب الإبادة للشعب الفلسطيني.. قتله، تهجيره وتدمير كل مقومات العيش والحياة في أرضه، حرب مجردة من أيّ رادع إنساني. ولقيت هذه الحرب، في أيامها الأولى مساندة مطلقة بقيادة الإدارة الأميركية، من الدول الغربية، ومن والاها في آسيا وفي أميركا الشمالية والجنوبية معا. بزعم حقّ إسرائيل في الدّفاع عن نفسها. وساهمت تلك الدول بنسج تغطية إعلامية شديدة السماكة للعدوان الإسرائيلي.

ومع تصاعد الوحشية والهمجية الإسرائيلية، والتي طالت المدنيين العزل، وفيهم الأطفال والنساء والشيوخ، ودمّرت المستشفيات والمدارس، وحجزت عنهم الطعام والماء والوقود والكهرباء.. علت صراخات الألم الفلسطيني إلى أن اخترقت السواتر الإعلامية الغربية. فرأينا كيف صحا الضّمير الإنساني العالمي في ساحات كبريات وصغريات مدن العالم، عبر تلك المظاهرات الصاخبة، الحاملة للأنين الفلسطيني، بمئات الآلاف من المشاركين فيها، وأساسا في الدول التي كانت قرّرت معاقبة كل من يرفع علم فلسطين أو يعبّر عن احتجاجه على قتل شعبها.

وهكذا تحوّلت القضية الفلسطينية المنسية إلى قضية إنسانية بدعم شعبي عالمي. وهو ما سيفرض على مراكز القرار الغربي تخفيض منسوب حرارة تأييده المطلق لإسرائيل. لقد خرجت الشعوب عن سيطرة التعتيم الإعلامي لتلك المراكز. فتزايدت الضّغوط من أجل وقف الحرب، وأقلّه هدنة إنسانية مؤقتة. وتنامى التذكير باستحالة إبادة الشعب الفلسطيني، وبالتالي استحالة اقتلاع “حماس” منه. فهي جزء من شعبها الذي من حقه مقاومة المحتل.. ليكتشف العالم أن الأصل في كل هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي! تذكر العالم بأن طرفي الصراع، الإسرائيلي والفلسطيني، سبق لهما وتوصلا إلى اتفاقيات أوسلو والتي وضعت خارطة طريق “لحل الدولتين”.

وعدنا إلى سماع ضرورة العودة إلى “حل الدولتين”. منذ الأيام الأولى للحرب ذكّرت الدول العربية بأفق حلّ الدولتين، ولم يكن الغرب مكترثا بذلك. وفقط هذه الأيام الأخيرة عاد ساسة الغرب وعلى رأسهم الرئيس الأميركي إلى الحديث عن الحل السياسي وأفقه حلّ الدولتين. ومعنى ذلك العودة إلى اتفاقيات أوسلو.. تلك التي تجاهلتها إسرائيل وتلك التي أصلا تعارضها “حماس”.

الأدبيات السياسية سبق وأن أبرزت أن “الحرب استمرار للسياسة”، تترجم أهدافها بلغة عسكرية. والحرب أيضا تنتهي إلى السياسة وقد لا تنتهي بها. وهذه الحرب الإسرائيلية الجارية اليوم، تعكس السياسة العدوانية ضد الشعب الفلسطيني. ولكن لا بد وأن تعود إلى السياسة، وإلى البحث عن حلّ. ومقترح الحل الوحيد الموضوع على الطاولة هو اتفاقيات أوسلو. ولا يمكن لأي مفاوضات أن تتغاضى عنها. هي أرضية لا بدّ منها لكل بحث عن حلّ. وأصلا إسرائيل أنهكتها وحشيتها، والتي رغم آلاف القتلى والجرحى لم تؤثّر على وضع “حماس”. وحلفاؤها، بدرجات متفاوتة، يُعبّرون عن تذمُّرهم من تلك الهمجية، بتأثير من غضب شُعوبهم.

الهدنة هي استراحة لإسرائيل من دوار حربها وضغوط أصدقائها. هي ذهبت بعيدا في جرائم الحرب، إلى حدّ أنها كانت ستطلب هدنة حتى بدون عذر تبادل الأسرى والرّهائن… وهذه الهدنة قد تتوقف، ولكنها ستعود، وتتوقف وتعود، إلى أن تستقر هدنة تبحث في وقف الحرب، لتفتح مفاوضات، ضمن آفاقها حل الدولتين. وعلى الأقل في بعض تفاصيله وقسماته سيكون حلا شبيها “باتفاقيات أوسلو”. هذا تكهّن، أو مراهنة من إملاء الأمل في وقف العدوان على الشعب الفلسطيني.

◙ حركة حماس عارضت اتفاقيات أوسلو، بحماس. ولعلّ مُعارضتها تلك شكلت سببا هاما من أسباب صِراعها ضد السلطة الوطنية الفلسطينية، واسْتِئثارها بالتحكُّم في قطاع غزة

زرت أوسلو الأسبوع الماضي.. ورأيت أن أتفقّد المنزل الذي آوى المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية، بداية تسعينات القرن الماضي. هي فيلا، في الضاحية الجبلية لأوسلو، معزولة من طابقين، وجدتها مكسوة بالثلوج، مغلقة وغير محروسة، وحين اقتربت من بابها بدت لي إنارة خفيفة داخلها.. ما يعني نوعا من العناية بها أو صيانتها. أمام المنزل مطعم متّصل بمقهى أنْشئ سنة 1890، هو مزار سياحي. كشف لي مسؤول المطعم عن جناح علوي فيه كان المشاركون في المفاوضات يتناولون وجبات الطّعام، وحدهم وبعزلة عن بقيّة الزبائن.

وأنا مستغرق في تخيّل مجريات الحياة في “مطبخ” تلك الاتفاقات باغتني أستاذ عراقي، خمسيني، مقيم في النرويج منذ عشرين سنة، يسألني عما إذا كنت مغربيا، ومن جوابي تعرّف عليّ، لأنه يتابع صحيفة “العرب” ويقرأ لي فيها، وسبق له أن زار المغرب مرّتين وأضاف بأنه مُعجب به. طبعا اتّفاقية أوسلو كانت مدخلا لحديثنا حول الحرب الإسرائيلية ضدّ الشعب الفلسطيني. هو الآخر يتصوّر أنْ تنتهي الحرب إلى البحث عن حل سياسي، مُؤقّت أو نهائي. ولكنّه أضاف أن المطلوب أن يعود الالتفاف العربي حول القضية الفلسطينية إلى سالف عهده حين كنّا نتحدث عن “الصراع العربي – الإسرائيلي”. واستدرك “وهذا يستدعي وحدة الصف العربي وحلّ الخلافات العربية – العربية”.

ودون أن أتدخّل، سيقول لي وقد كسا وجهه انقباض أسى “أتأسّف لكون قيادة الجزائر، وهي التي نظمت قمة عربية للمصالحة، هي أوّل من يضيّع شروط المصالحة بين العرب، ويعمّق واحدا من النزاعات العربية المفتعلة. ولا أدلّ على ذلك من الأخبار التي وصلتني عن هجمات صاروخية أطلقتها حركة بوليساريو الانفصالية هذه الأيام ضدّ مدينة في الصحراء المغربية”. تحمّس وهو يتدفّق برأيه “المفروض أن نتوّجه جميعا، كعرب للتضامن مع الشعب الفلسطيني من أجل وقف الحرب ضده، لا أن نطلق النّار على أشقائنا..”، ثم سألني ما هو رأيك؟ أجبته بأن ما ينبغي أن يشغلنا اليوم هو فلسطين، والمغاربة، ملكا وشعبا، دأبوا على اعتبار القضية الفلسطينية قضية وطنية.. هذا ما يهمنا اليوم وغدا..

9