حرب الجميع فيها خاسر

تستمر الحرب الروسية على أوكرانيا لتشارف الشهرين منذ انطلاقها على عكس تكهنات المحللين العسكريين في الأيام الأولى للغزو، حيث توقعت الغالبية أن تكون العملية العسكرية التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خاطفة وحاسمة، في زمن أقصاه عشرة أيام، لتتمكن من خلالها موسكو من بسط سيطرتها على كييف ومن ثم إعلان سقوط فولوديمير زيلينسكي وقيام خارطة سياسية جديدة في أوكرانيا.
ولكن يتضح أن المسار العسكري للحرب لا يزال غامضا، ويقابله زحف اقتصادي على موسكو بجملة من العقوبات الاقتصادية القاسية، وان كانت هذه الأخيرة تحاول التقليل من شأنها، في مشهد يشبه عزف الموسيقى أثناء غرق التايتانيك.
يحاول بوتين الالتفاف على عقوبات الغرب من خلال فرض التعامل بالروبل مع الدول غير الصديقة لسداد فواتير الغاز، ليعلن أن خطة الغرب لتركيعه باءت بالفشل، وهي محاولة أيضا لتوجيه ضربة إلى الدولار الأميركي الذي يستمد قوته من بيع النفط والغاز. كما أنها إشارة للرئيس الأميركي جو بايدن أن حلفاء روسيا المصدرين للبترول والغاز قد يتوجهون للتحرر من الدولار في تعاملاتهم النفطية، واعتماد عملاتهم المحلية. ولكن الخطة قد تبوء بالفشل خاصة وأن الولايات المتحدة تسعى جاهدة لتقليص اعتماد أوروبا على الغاز الروسي وصولا إلى مرحلة يتم فيها الاستغناء عنه نهائيا، ويتضح هذا من خلال محاولة العمل على زيادة الإمدادات الأميركية من الغاز إلى أوروبا، بالإضافة إلى دعوة الجزائر ومصر وقطر وليبيا إلى ضخ المزيد من إمدادات الغاز إلى أوروبا. وحتى وإن كانت الجزائر ومصر في صف المعسكر الروسي إلا أنهما مجبرتان على ضخ المزيد من الغاز وذلك في صفقة مع الولايات المتحدة تضمن أمنهما الغذائي.
وبالرغم من أن بوتين قلل من حجم التهويل الإعلامي الذي تقوده واشنطن وحلفاؤها حول العقوبات الاقتصادية وضررها، إلا أن إغلاق العديد من الشركات العالمية فروعها في روسيا، خلق أزمة بطالة في بلد يعاني أصلا من انكماش اقتصادي جراء الجائحة، الأمر الذي يجعل من الشباب خزانا لثورة شعبية قد تشتعل في أيّ لحظة للتعبير عن سخطها من الأوضاع الاقتصادية، التي تزداد سوءا مع تحول روسيا إلى دولة معزولة شبيهة بكوريا الشمالية ليس بإمكان الشباب فيها استعمال منصات التواصل الاجتماعي بقرار من المحكمة.
هذا لا يعني أن بوتين هو الخاسر الوحيد من هذه الحرب، فالجميع يدفع الفاتورة بمن فيهم الولايات المتحدة التي يفقد فيها جو بايدن يوما بعد يوم من شعبيته جراء ارتفاع أسعار الوقود. وهو ما لم يتجرعه الأميركيون على اعتبار أن الطبقة المتوسطة في الولايات المتحدة لا تهتم بتحالفات بايدن الخارجية وموضوع الحرب في أوكرانيا، بقدر ما تهتم بالوعود الانتخابية التي أطلقها. كذلك الأمر بالنسبة إلى الأوروبيين الذين استضافوا اللاجئين الأوكرانيين ليكتشفوا أن زيارة الضيوف قد تستمر لوقت طويل وتستنزف خزائن حكوماتهم. ناهيك عن تحذيرات وكالات الأمم المتحدة من أن العملية العسكرية الروسية قد تتسبب بأزمة غذاء ستكون مأساوية للجميع، وتهدد بالدرجة الأولى الدول النامية التي ستزداد فيها رقعة الفقر.
لقد فشل التهديد بالعقوبات في منع روسيا من حربها على أوكرانيا، وفشل كذلك في إنقاذ العالم من انتكاسة اقتصادية ستعصف بحكومات وتفتح الباب أمام المزيد من الفقر الذي سيتحمله العالم الثالث البريء من عبث الناتو وروسيا. واضح الآن أن كل الأطراف خاسرة ومتورطة في مأزق كان بالإمكان تجنبه.
نحن الآن أمام “جائحة اقتصادية عالمية” سببها تهوّر بوتين ورغبة الولايات المتحدة في جره إلى حرب كانت تظن أنها لن تكتوي بنيرانها. وهنا يصبح البحث عن حلول وسط ترضي الجميع ضرورة قصوى قبل أن تتحول الحرب بالدبابات إلى حرب نووية، خاصة عندما يضطر بوتين إلى استعمال الكارت الأخير.