حراك بيروت: الألم التأسيسي ضد الشلل التوافقي

تواجه الطبقة السياسية اللبنانية ضغوطا متواصلة على خلفية أكبر موجة رد فعل للمجتمع المدني يشهدها لبنان في تاريخه، بدأت بمطالب لإيجاد حل لأزمة النفايات وتطوّرت إلى المطالبة بحل للأزمة السياسية التي طال أمدها.
الثلاثاء 2015/09/01
المظاهرات الشعبية هي المشهد الحي الوحيد في مستنقع الأحوال اللبنانية الراكدة

ثبتت لحظة السياسة اللبنانية منذ فترة على حالة يمكن تسميتها بـ”الشلل التوافقي”. تقوم عناصر هذا الشلل، المجمع عليه، على تبادل وهْب المشروعية بين القوتين المتناحرتين في البلد بشكل يمكن أن نعتبر معه أن كلا منهما يؤسس للآخر، ويمنحه القدرة على الاستمرار خلافا لواقع الأمور ومسارات الأحداث.

هكذا يؤسس حزب الله لخطاب 14 آذار ويؤسس المستقبل لخطاب حزب الله. كل شيء في نظر المستقبل يمكن تبريره ببساطة لا تحتملها السياسة بواسطة سلاح حزب الله ووجوده، وكذلك فإن حزب الله يرد كل شيء إلى ما يسميه الاستحواذ على السلطة ورفض الشراكة. لكن، الحراك الشعبي جاء كحالة مغايرة ترفض هذا الشلل العام، وترمي حجرا في مستنقع الركود اللبناني الطويل.

تم تغييب الحياة العامة والأزمات الملحة واليومية من دائرة النقاش، فبات المواطن اللبناني أسير حالة من اليأس لا يمكن الاستمرار في الحياة معها. وبات الاستمرار في العيش مهمة مستحيلة في ظل تفاقم أزمة النفايات والكهرباء وفرص العمل. وصار العيش عبارة عن ألم خالص وشخصي وعام، ويشكل وحده القاسم المشترك بين عموم اللبنانيين، واللغة الوحيدة القادرة على كسر الفيتوات الطائفية والحزبية.

الألم الذي لا يمكن احتماله ولا تجاهله وضع اللبنانيين في مواجهة مع مستحيلات تتلخص، كما كان حال الثورة السورية على نظام الأسد، في استحالة الخروج على السلطة السياسية بكل أطيافها. من هنا بدا هذا الحراك كسرا للمستحيلات السلطوية بما فيها سلطة حزب الله التي كانت قد تمثلت في الوعي اللبناني في هيئة قوة خارقة وأسطورية ولا يمكن مواجهتها.

الشلل التوافقي الذي منع اللبنانيين من ممارسة الحد الأدنى من الحياة تسبب بظهور الألم العام التوافقي والخارج من كل التوصيفات ومن كل العباءات. وأسس لنشوء حركات شعبية مطلبية اتخذت من أزمة النفايات مقدمة لانطلاقها وأطلقت جملة من العناوين والشعارات المنطقية وغير المنطقية. لكن الأهم والذي لا يمكن تجاهله ولا التقليل من شأنه هو التأسيس للمختلف والجديد، والذي لا يمكنه المهادنة ولا التهاون مع أي شكل من أشكال السلطات القائمة.

حزب الله يبدو عاجزا عن الاستثمار في التظاهرات وفاقدا لهالة الرعب التي كانت تشل أي حراك مناهض له

نضارة الحراك وترهل السلطة

تمثل هذا الجديد في توصيف حالة الشلل في البلاد بأنها منتج جماعي تشترك كل القوى السياسية في تحمل المسؤولية عنها دون تمايزات، وبذلك تم استعادة خطاب الشأن العام من حصرية استخدامه كمادة للسجال السياسي إلى المجال المطلبي. والقوى السياسية في كل هذه الفترة كانت تطالب بعضها أو تطالب نفسها، وكأنه ليس هناك من شعب يطالبها، بل اقتصر النقاش داخلها وفيها، ما كان يسمح للأمور بالعودة الأزلية الأبدية إلى نقطة الانطلاق.

مجموعات عديدة ظهرت إلى العلن في هذه الآونة من قبيل مجموعة “طلعت ريحتكم”، ومجموعة “بدنا نحاسبكم” و”عكار منا مزبلة” وسواها. وتطرح جميع هذه المجموعات قضايا مطلبية لا تسمح بالتوظيف السياسي حتى وإن كانت هناك قوى حزبية تسعى لذلك، لأن النسق المطلبي الذي تجمع عليه إنما يتوجه بالإدانة والاتهام للقوى السياسية جميعها بشكل مسبق.

التحركات السابقة والتي كانت أقل حجما من تظاهرة السبت، أظهرت للسياسيين وقادة الأحزاب السياسية مدى ترهلهم، وعدم قدرتهم على كسر هذه الحالة واستغلالها لتصفية حساباتهم. كان العنف ضد المتظاهرين والذي اعتادت هذه القوى على ممارسته بكل أمان ووقاحة مدخلا لإعلان سقوطها جميعا. كان سهلا في السابق تصوير هذا العنف وتخريجه على أنه يعكس دفاعا عن مؤسسة رسمية، أو يمثل ردا مشروعا على عنف غوغائي وغير مشروع، يقوم به طرف تابع لجهة محددة ضد مؤسسة أمنية تمثل طائفة أو مرجعية محددة.

ما حدث أظهر أن القوى الأمنية المختلفة التي تتقاسمها القوى السياسية أبدت عنفا خالصا ردا على عنف ظهر لاحقا أن القوى السياسية هي نفسها المسؤولة عنه، وأن العناصر التي حرصت على الاعتداء على القوى الأمنية والاشتباك معها، إنما كانت تتبع لجهات سياسية سلطوية. تاليا اتخذ القمع هيئة حوار سلطات فاشلة مع بعضها يراد للمتظاهرين وللتظاهر أن يكون ضحية له.

الحراك بدا كسرا للمستحيلات السلطوية بما فيها سلطة حزب الله التي كانت قد تمثلت في الوعي اللبناني في هيئة قوة خارقة وأسطورية ولا يمكن مواجهتها

عمدت السلطات إلى استخدام وسائل قديمة وبالية مستنسخة من العقل الأمني البعثي الذي حكم لبنان لفترة طويلة، فقامت بتصوير مثيري الشغب بوصفهم مجموعة من الحشاشين ومتعاطي المخدرات. وقامت بعد اعتقال مجموعة من المتظاهرين بإجراء فحوص بول إكراهية لهم لإظهار آثار للمخدرات في أجسامهم، واستعمال هذه النتيجة لسحب المشروعية من التحرك،.

ولم تظهر الفحوصات أي آثار للمخدرات في أجسام المعتقلين، ولكن ما لم يكن ممكنا إخفاؤه كان آثار الضرب العنيف والعشوائي وغير المبرر، واعتقال القاصرين واستجوابهم دون وجود محامين وغير ذلك من المخالفات القانونية والانتهاكات الأخلاقية والمهنية.

ارتدت الممارسة الأمنية ثوب العصابات الخارجة على القانون. وقد أدى فشل السلطات في شيطنة المتظاهرين، وفشل كل القوى السياسية في سرقة التظاهرات إلى تنصل الجميع من تهمة قمع المتظاهرين ورمي التهم على الطرف الآخر.

الحركة التي بدت هشة الأسبوع الماضي، والتي دخل إليها من أطلق عليهم وصف “المندسين” باتت مع تظاهرة السبت أكثر منعة وقوة، وبدت كأنها المشهد الحي الوحيد في مستنقع الأحوال اللبنانية الراكدة. تضاعفت الآلاف القليلة ونجح الحراك حديث السن في استقطاب فئات مختلفة ومتنوعة من الشعب اللبناني. وارتدى بسرعة لافتة ثوب الشرعية الشعبية وبات كل من يدعي انتماء إلى الشعب وحقوقه مطالبا بأن يقف في صف المظاهرات. وهكذا شهدنا مشاركة سياسيين معروفين وظهور الكثير من الوجوه المنسية.

المطالب الكبيرة التي رافقت تظاهرات الأسبوع الماضي تراجعت لصالح مطالب أوضح وأكثر منطقية وعقلانية، تمثلت في البيان الذي أصدره الحراك، والذي أمهل الحكومة 72 ساعة لتنفيذ ما ورد فيه من مطالب تحت طائلة التصعيد. وجاءت مطالب المتظاهرين على الشكل التالي:

* استقالة وزير البيئة محمد المشنوق.

* محاسبة وزير الداخلية و كل من أصدرالأوامر بإطلاق النار وإصدار نتائج التحقيق.

* إجراء انتخابات نيابية جديدة.

* حل بيئي مستدام لملف النفايات في لبنان يتضمن تحرير أموال البلديات من المجلس البلدي المستقل.

وكان أخذ على الحراك عدم إيراده مطلب انتخاب رئيس للجمهورية. وقد رد أحد المنظمين على هذه التهمة، معتبرا أن انتخاب الرئيس لا يمكن أن يقوم به مجلس نيابي فاقد للشرعية.

المهمة الأصعب التي تقع على عاتق هذا الحراك، هي المحافظة على نقاء هذه البدايات وبراءتها وخصوصيتها، وشرعيتها المضادة لكل الشرعيات الموجودة

البديل الحيوي

التحولات التي سمحت لهذا الحراك بالنشوء والتبلور، والتحول من مجرد ردة فعل احتجاجية عفوية إلى حركة منظمة تنوب عن القوى القديمة وتعلن نهايتها، يمكن تحديدها في أن القوى الغربية والتي كانت الداعم الأبرز لقوى 14 آذار لم تعد تجد فيه القدرة على تشكيل حالة مناهضة للأصولية وللإرهاب ولحزب الله. كذلك يبدو أن المحيط العربي لم يعد راغبا في المراهنة على هذه القوة.

بدت قوى 14 آذار في نظر العالم ناطقة باسم الترهل السياسي اللبناني العام، وهي النظرة نفسها التي يحملها المتظاهرون عنها.

من هنا تلاقت وجة نظر المتظاهرين والعالم الغربي والمحيط العربي فظهروا في ثوب البديل الحيوي المتصل بالزمن وبالحداثة وبالعالم، والذي يمكن لدعمه أن يكون استثمارا مفيدا وفاعلا وقادرا على تحقيق ما لم تنجح فيه قوى 14 آذار التي عرتها التظاهرات، وأظهرتها كشريك في الفساد وبأنها جزء من المشكلة وليست جزءا من الحل.

دفعت جرأة المتظاهرين، والتي شملت حزب الله، بتصنيفهم على أنهم تيار علماني ليبرالي غير متصل بالولاءات التقليدية، حيث أنهم نجحوا في منع حزب الله من إسقاط حراكهم أو التحكم فيه. نجحوا في إظهار الحزب في صورة أقل بكثير من الصورة التي يتبناها عن نفسه، فقد بدا عاجزا ليس فقط عن الاستثمار في التظاهرات، بل بدا فاقدا لهالة الرعب التي كانت تشل أي حراك مناهض له والتي طالما تبناها فريق 14 آذار وتعامل معها كقدر لا يرد. تقلص رعب حزب الله إلى مجرد سلوك ميليشوي يمكنه أن يترجم بسلوكات من قبيل تهديد فريق عمل تلفزيون المؤسسة اللبنانية للإرسال، وإجباره على إزالة صورة السيد حسن نصرالله من بين صور الشخصيات السياسية التي يحتج ضدها اللبنانيون، بدعوى أنه ليس زعيما سياسيا بل رجل دين، وأن مقارنته بغيره من السياسيين لا تجوز.

كان حزب الله يحتمي بالمقدس لمنع الأسئلة، لذا فإن دخول الأسئلة إلى قلب بنيته يعد اختلافا بينا في طبيعة التعامل معه، وهو ما نجح فيه المتظاهرون حيث فشل فريق 14 آذار الذي لم يتعامل يوما مع حزب الله إلا من خلال الصورة التي يرسمها هو لنفسه.

من هنا يمكن أن نستنتج أن دعم المتظاهرين غربيا، والذي يرجح أن تكون السعودية مؤيدة له، في ظل انصرافها عن دعم فريق 14 آذار، يقول إن الفراغات الكبرى في جسد السلطة في لبنان لا بد أن تسد.

وكان الأصوليون قد طرحوا أنفسهم في لحظة ما كمرشحين أقوياء لسد هذا الفراغ بدعم حثيث من حزب الله، وذلك لأنه يجيد الانتصار عليهم. لكن ما لم يتوقعه الحزب أن يكون من يقف في وجهه هو النقيض الذي يحرم تهويلاته العسكرية من عناوينها ويهمشها ويشلها بهشاشته ومدنيته، ويجعلها عبئا ثقيلا بدل أن تكون عامل تفوق حاسم.

يبقى أن نقول إن هذا الحراك الذي يمكن انتقاده، ووصف منظميه بقلة الخبرة، وانعدام الرؤية السياسية الواضحة، وعدم القدرة على تشكيل قيادة فاعلة يمثل حالة تكمن فاعليتها في أنها تمثل خطاب ألم عار، لا يحتاج إلى تنظير ولا إلى دسامة فكرية وخطابية كي يستطيع العبور، والوصول وإيجاد منطقة تفاهم عامة.

لا يعني ذلك أن الأمور لم تعد مفتوحة على احتمالات عديدة وخطيرة، ولكن هذه اللحظة أسست لبدايات. البدايات غالبا ما تكون جميلة، لذا ربما تكون المهمة الأصعب التي تقع على عاتق هذا الحراك، هي المحافظة على نقاء هذه البدايات وبراءتها وخصوصيتها، وشرعيتها المضادة لكل الشرعيات الموجودة.

كاتب لبناني

7