"حدك سوريا" أم فرع "حدك أربيل" في سوريا

معظم الأكراد في سوريا يعيشون العبودية الطوعية ويكابدون آثارها الكارثية وأغلبهم مكبلون بالمُسلّمات والأفكار والرؤى المتوارثة.
الثلاثاء 2023/06/27
ولاء أعمى

سلّط التئام المؤتمر الأخير للحزب الديمقراطي الكردستاني “حدك سوريا” في منتصف هذا الشهر في أربيل الأضواء من جديد على مسألة الدونية والتبعية السيكولوجية والتنظيمية والفكرية التاريخية شبه المطلقة لمعظم الأكراد في سوريا لصالح الأشقاء المفترضين في كردستان العراق المتمثلين في الحزب الديمقراطي الكردستاني “حدك أربيل”، بشكل عام، والأسرة البارزانية الحاكمة بشكل خاص.

تأسس الحزب الديمقراطي الكردستاني في سوريا سنة 1957، وسمي بهذا الاسم تيمنا بـ”حدك العراق” بزعامة الراحل مصطفى بارزاني. لكن بعد عدة سنوات من التأسيس توارى هذا الاسم عقب انشطار الحزب الأم إلى عدة أحزاب متنافرة.

في عام 2014 تمت إعادة تأسيس هذا الحزب من جديد في أربيل بإيعاز من حدك ورئيسه مسعود بارزاني. وعلى هذا الأساس تم الاندماج التنظيمي بين أربعة أحزاب كردية – سورية على قاعدة الحفاظ على مصالح المندمجين وتنفيذ أجندات أربيل في كردستان سوريا بعد أن لعب المال السياسي الدور الأبرز في عملية إعادة ظهور هذا الاسم من جديد إثر عقود من الاختفاء.

ومن ثم تم الإدعاء زورا بأن هذا الحزب هو الوريث الشرعي لـ”حدك سوريا” الذي ولد سنة 1957 وتم ترقيم المؤتمر الأخير كذبا وافتراءً بالثاني عشر، علما أنه حديث النشوء وولد سنة 2014 والمولود كان مشوها وظهر بعملية قيصرية وبعد مخاض عسير.

يعتبر “حدك سوريا” من الناحيتين النظرية والعملية فرع “حدك أربيل” في سوريا. وهو الحزب الرئيسي في المجلس الوطني الكردي في سوريا والمهيمن عليه. هذا المجلس الذي تأسس في 26 أكتوبر 2011 برعاية مسعود بارزاني. وقد ولد هذا المجلس بعد 24 يوما فقط من ولادة المجلس الوطني السوري الإخواني المعارض في 2 أكتوبر 2011 بإسطنبول، وهذا التعاقب الزمني لم يكن من قبيل الصدفة.

تبعية أكراد سوريا لجنوب كردستان أبصرت النور أيام الزعيم الراحل مصطفى بارزاني وترسخت وقويت شوكتها أيام الابن مسعود والأحفاد نيجيرفان ومسرور

ويضم المجلس عدة أحزاب كردية تقليدية ليس لها دور مؤثر على الأرض وقد تموضعت في هذا الكيان بعد استمالتها من قبل كل من أربيل وأنقرة والدوحة عن طريق المال السياسي الذي بدأ يتدفق بغزارة عقب عام 2011.

ومن الأسباب الرئيسية التي أدت إلى ظهور هذا المجلس تنفيذ أجندات “حدك أربيل” في كردستان سوريا وإرضاء تركيا الأردوغانية ونكاية بحزب الاتحاد الديمقراطي الذي بدأ دوره يتعاظم تدريجيا بالتزامن مع ظهور الأزمة السورية. وحاليا يعتبر هذا المجلس جزءا من الائتلاف السوري الإخواني المعارض والموالي لتركيا وقطر.

تبعية أكراد سوريا لجنوب كردستان أبصرت النور أيام الزعيم الراحل مصطفى بارزاني وترسخت وقويت شوكتها أيام الابن مسعود والأحفاد نيجيرفان ومسرور، ولاسيما عقب حدوث الأزمة السورية في 2011. مكان انعقاد المؤتمر الأخير هو أربيل، معقل “حدك العراق” والعائلة البارزانية الحاكمة، والمشرف عليه كان رئيس حدك ورئيس الإقليم الفعلي مسعود بارزاني، وبهذا كان المكتوب واضحا من عنوانه.

وكأن التاريخ يعيد نفسه من جديد في هذا الميدان، ففي أغسطس سنة 1970 انعقد المؤتمر الوطني الخاص بأكراد سوريا في ناوبردان بكردستان العراق برعاية مصطفى بارزاني. والهدف الظاهري من انعقاد ذلك المؤتمر هو رأب الصدع ونبذ الخلافات بين رموز ما كان يسمى باليسار واليمين الكردييْن في سوريا. لكن الهدف الحقيقي الكامن كان تدشين وتعويم وترسيخ وتجذير حالة التبعية النفسية والاجتماعية والتنظيمية والفكرية بين أكراد سوريا لصالح “حدك العراق” والعائلة البارزانية الحاكمة، أو بالأحرى بين المركز، أي كردستان العراق، وبين الطرف، أي كردستان سوريا. بمعنى آخر، نشر ثقافة التابع والمتبوع بين العبيد الطوعيين من أكراد سوريا لصالح الأسياد في كردستان العراق.

وبعد انتهاء أعمال المؤتمر عمد بارزاني إلى وضع عدة شخصيات سياسية كردية بارزة من سوريا تحت الإقامة الجبرية واصفا إياها برموز الشقاق. لكن السبب الرئيسي وراء تصرف بارزاني المباغت هو عدم رضاه عن تلك الشخصيات التي كانت بشكل أو بآخر ولسبب أو لآخر معارضة له. وبعد عودة المؤتمرين إلى سوريا، وبدلا من أن يتحد اليسار واليمين في إطار واحد انشطرا إلى ثلاثة أحزاب، اليسار واليمين والحياد. ومن ثم فرض بارزاني على قيادة أكراد سوريا شخصا أميا لم يكن له أي باع أو أي إرث في العمل السياسي والتنظيمي سوى أنه كان من الأتباع والمريدين والمنفذين دون اعتراض لأجندات “حدك العراق” في كردستان سوريا، وهذا ما كان ومازال يتطلع إليه “حدك العراق” والأسرة البارزانية الحاكمة، أي تفضيل الأتباع والمريدين والعبيد الطوعيين على الشركاء والأقران.

تاريخيا، برزت عدة عوامل حاسمة في ولادة هذه التبعية منها القومية والدين والمذهب والمناطقية والجغرافيا السياسية والمال السياسي الذي بات يلعب دورا بارزا في الآونة الأخيرة والذي أرخى عزيمة وإرادة ممن كانوا يصنفون إلى الأمس القريب معارضين ويساريين حتى تمت استمالتهم أكثر من قطعان الموالين التقليديين أنفسهم. وقبل هذا وذاك اكتظاظ الساحة الكردية في سوريا بالأذلاء المهانين.

الإخوان المسلمون في سوريا هم أكثر أخونة وعشقا لحسن البنّا بالمقارنة مع الإخوان المسلمين في مصر، والناصريون في سوريا هم أكثر ناصرية من الناصريين في مصر

هكذا تهافت وتنافس المريدون والعبيد الطوعيون على تقديم فروض الطاعة والولاء غير المشروط للبارزانيين في أربيل وبترويض المجتمع الكردي في سوريا والأجيال اللاحقة على تقبل هذه الوضعية الكارثية المتوارثة وكأنها حالة طبيعية متلازمة لا يمكن الفكاك منها.

“أذلاء ومهانون” رواية للكاتب الروسي الأشهر فيودور دوستوفسكي، تسلط الضوء على قدرة أصحاب المال والجاه والنفوذ (الأسياد والأغنياء) على التحكم في مصائر الآخرين من الأتباع والمريدين (الأذلاء المهانين) الذين يمتهنون الذل والهوان مع مرور الوقت ويروضون أنفسهم على ذلك إلى أن يدمنوا عليه لدرجة تتبدى فيها حالة الذل والهوان التي يعيشونها وكأنها اعتيادية ومنطقية وجزء لا يتجزأ من الثقافة الجمعية بفضل عاملي التقادم وتناقل الإرث البغيض من جيل إلى آخر وبكل فخر واعتزاز.

وفي نفس السياق يقول الفيلسوف الفرنسي ديكارت “عندما يكون الشخص مكبلا بالسلاسل الحديدية منذ طفولته، سيعتقد أن هذه السلاسل هي جزء من جسده وأنه يحتاج إليها كي يتمكن من المشي”.

وهذا ما حدث ويحدث للأكراد في سوريا، حيث أن معظمهم يعيشون العبودية الطوعية ويكابدون آثارها الكارثية وأغلبهم مكبلون ومقيدون بالمُسّلَمات والأفكار والرؤى المتوارثة. وأكثرهم سعداء ومنسجمون مع هذه القيود والأغلال ويرونها طبيعية وضرورية بصرف النظر عن عدم صلاحيتها ومواءمتها للعصر، وبالتالي صارت الأغلبية غير مستعدة للاستغناء عنها بأي ثمن. وهنا تكمن المصيبة، أي الانتشاء بالقيود والأغلال والتبعية العمياء والعبودية الطوعية مع الإشادة المستمرة بذلك والتباهي اللامتناهي به.

حقا إنها ظاهرة صادمة وملفتة للنظر وليست لها جغرافيا محددة، وتكاد تكون كونية الوجود والتمظهر والتجلي، وهي أن المريد والتابع والفرع والطرف هم أكثر تبعية وانغماسا وإخلاصا من أصحاب الشأن أنفسهم وأكثر من الأصل ذاته.

على هذا الأساس، الإخوان المسلمون في سوريا هم أكثر أخونة وعشقا لحسن البنّا بالمقارنة مع الإخوان المسلمين في مصر. والناصريون في سوريا هم أكثر ناصرية من الناصريين في مصر. والبعثيون في اليمن ولبنان والأردن هم أكثر بعثية من بعثيي سوريا والعراق. والأوجلانيون (الآبوجيون) من أكراد سوريا هم أكثر أوجلانية من الأكراد الأوجلانيين في كردستان تركيا وجبال قنديل. والبارزانيون من أكراد سوريا هم أكثر بارزانية من بارزانيي إقليم كردستان والعشيرة البارزانية نفسها. والمسلمون من غير العرب هم أكثر إسلامية وتدينا من المسلمين العرب أنفسهم الذين ظهر القرآن بلغتهم. والكاثوليكيون من غير الإيطاليين هم أكثر كاثوليكية من البابا نفسه.

هذه الظاهرة لها خلفيات وجذور وأبعاد وملامح سيكولوجية متعلقة بالدونية وعقدة النقص والاستصغار أكثر مما هي متعلقة بالفكر والسياسة. وفي هذا الإطار أيضا تندرج قصة الأذلاء المهانين في الحزب الديمقراطي الكردستاني فرع سوريا.

7