حداثة الجهل المقدس

الجهل المقدس هو ما يحاصر الفكر الحر ويقمع الحريات في التفكير ويخوف المثقفين التنويريين كما يعوم ساحة التراث الديني بإطلاق المقدس على كل شيء.
الاثنين 2019/01/28
استراتيجية "الجهل المقدس" لتهييج العامة ضد الفكر التنويري

منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 ازداد التطرف الإسلامي تمكنا وارتفع معه منسوب الجهل المقدس مرتبة، ليصل في العام 2014 إلى الإعلان عن تأسيس الدولة الإسلامية أو ما اصطلح على تسميته مختصرا بـ”داعش”، أي العودة إلى نظام الخلافة والخليفة وازدهر فكر السلفية الجهادية.

تتكئ أيديولوجية الخلافة الإسلامية في تأسيسها المعاصر على العوامل الأيديولوجية التالية: الترهيب والتهجير والتخريب والتكفير والتقديس.

فأما الترهيب فيلاحظ ذلك جليا في ممارسات القتل الهمجية وفي الكيفية الاستعراضية التي تتم بها ويظهر الترهيب أيضا في العنف الممنهج والمؤدلج المسلط على سكان المناطق التي استولت عليها ميليشيات دولة الخلافة الإسلامية المعاصرة.

ولكي تأخذ فكرة الترهيب أبعادها الفاشية تجسد على عنصرين أساسيين في المجتمع، هما النساء لأنهن يمثلن في المخيلة الإسلامية “الشرف” وبالتالي إهدار الشرف هو قمة الترهيب والإذلال، كما يظهر الترهيب على الأطفال الذين يتحولون إلى سلعة في سوق النخاسة، للبيع والشراء.

أما فكرة التهجير فهي ملحقة بالترهيب حيث يتم استبدال ساكنة بساكنة أخرى، لأن الفضاء يصبح ملكا للخليفة، له الحق في التصرف في ممتلكات الرعية كما يشاء، كما له الحق في التصرف في الرعية نفسها نساء ورجالا كما يشاء، وبالتالي يتم تهجير فئات على حساب استراتيجيات الغلبة والاستقواء والخنوع، لذا فقد تغيرت ديموغرافية كثير من المدن والقرى والمناطق منذ مطلع القرن الجديد، ولعل موجات الهجرات والتهجير الداخلية أو الخارجية هي نتاج استقواء وثقافة الترهيب التي تمارسها الخلافة الإسلامية.

كما أن التخريب الذي يطال التراث المادي هو طريق آخر لمحو الذاكرة وإنتاج سلعة بشرية إسلاموية دون ذاكرة، بل ذاكرتها الوحيدة هي الترهيب والخنوع والقتل والاستحواذ والاغتصاب.

أما فكرة المقدس فهي مرتبطة بقضية التكفير وقد أعطتها الخلافة الإسلامية مرتبة مهمة، حيث يتهم كل من يختلف عن أيديولوجية الخلافة الإسلامية بالمرتد وبالكافر وبالتالي يصبح دمه مهدورا.

إن المعرفة الدينية كما تجلت في تراثها المكتوب، بما فيها “كتابة القرآن” (لا أتحدث عن الوحي) والموقف الذي اتخذ من قبل الخليفة والذي ترتب عنه الاحتفاظ بنسخة واحدة وحرق البقية، مرورا بالتفاسير جميعها وقضية جمع الأحاديث في متون وترتيبها…كل هذه الثقافة هي منتوج بشري جاء لتلبية رغبات السلاطين والخلفاء التاريخية، واستعمالها كسلاح ضد خصومهم من المسلمين الآخرين الذين كانوا يمثلون المعارضة بالمصطلح المعاصر.

وقد اختلف كاتبو الحديث حسب إملاءات السلطان، وكذب بعضهم بعضا، وخالف بعضهم بعضا في الأولويات وفي الثانويات، وتشكلت جراء ذلك تيارات دينية متقاتلة الواحد يكفر الثاني فكيف إذن يقدس من يكفر الآخر من ذات الملة؟

لقد أدخل الجهل المقدس كثيرا من صنائع البشر، على تفاوت اجتهاداتهم وأخطائهم، في باب المقدس الذي لا يمس، واختلط الحابل بالنابل في كل ما يتصل بالمقدس عند فراخ داعش الرسميين وغير الرسميين وهذا الصنف الأخير هو الأكثر عددا والأكثر خطورة.

فراوي الشعر أصبح مقدسا، وناقل الحديث النبوي أصبح مقدسا، واللغة العربية أصبحت مقدسة، والصحابي مهما كانت مرتبته أصبح مقدسا، وجميعهم أخذوا واحتلوا مكان “الله” تبارك وتعالى، وأصبح المسلم “المدعوش” يقدس أبا هريرة أو البخاري أو مسلم أو ابن تيمية أو السيد قطب أكثر مما يقدس الله تبارك وتعالى.

لمحاصرة الفكر الحر وقمع الحريات في التفكير وتخويف المثقفين التنويريين يتم تعويم ساحة التراث الديني بإطلاق المقدس على كل شيء، هي استراتيجية “الجهل المقدس” لتهييج العامة ضد الفكر التنويري وتكميم الفكر الاجتهادي.

لقد استثمر الإسلامويون في الجهل المقدس وتدوير إنتاج مصنع الخرافة الجديدة خرافة “الخلافة الإسلامية” عن طريق التكنولوجيا وذلك من أجل تنويم الناس وتجهيلهم، فبدل أن تكون خيرات التكنولوجيا التي صنعها اليهود والنصارى والكنفوشسيون والزنادقة واللائكيون لحظة وعي في عقل المسلم اليوم فقد تحولت إلى وسيلة لتعميم الجهل المقدس.

فهل نحن حقيقة في مستوى هذه الخيرات الإنسانية العلمية التكنولوجية؟

14