حاجة مصر إلى تحالف وطني جديد

المصريون تخلصوا من جحيم الإخوان لكنهم لم يتخلصوا بعد من الأمراض المزمنة في حياتهم السياسية وقد تكون الظروف التي مرت بها البلاد فرضت اللجوء إلى بعض الخيارات الغامضة.
الاثنين 2023/06/19
لا توجد سلطة يمكنها مجابهة الكثير من العراقيل بلا غطاء سياسي وشعبي متماسك

تستوجب التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها الدولة المصرية الالتفاف حول أجندة وطنية واضحة، تقطع الطريق على انقسام حاد بين قوى سياسية مختلفة ربما يتزايد في توقيت بالغ الحساسية، ويمكن لهذه الخطوة أن تستثمر القاعدة التي يقف عليها الحوار الوطني بين الحكومة وقوى معارضة لإعادة الحياة إلى نموذج

 الثلاثين من يونيو الذي أسقط حكم الإخوان منذ عشر سنوات، أو تشكيل تحالف جديد على غراره.

قد تكون صفحة الثلاثين من يونيو طوت عمليا الكثير من سطورها في ظل تحولات جرت في بنية القوى المؤسسة له، غير أن المعنى والنبتة والفكرة باقية ولم تمت، إذ قامت على إجماع طيف واسع من القوى السياسية والمجتمعية بمساندة قوية من المؤسسة العسكرية على وقف توسع الإخوان أفقيا في السلطة ومنع تغول الجماعة في البلاد بعد أن كادت تفتحها على مصراعيها لتدخلات خارجية متباينة.

تم تجاوز عقبة الإخوان عندما توافر المشروع والإرادة والرغبة والإجماع الوطني والهدف الواضح والنوايا الخالصة من غالبية القوى التي جذبها التخلص من حكم جماعة تستعين بالخارج على الداخل ولا تمانع في رهن الدولة لأي جهة تساندها.

◙ من دون تحالف وطني واسع له محددات ومعالم واضحة سوف تصبح التهديدات مضاعفة فلا توجد سلطة يمكنها مجابهة الكثير من العراقيل بلا غطاء سياسي وشعبي متماسك يعيد الثقة ويزيل الهواجس

ظهر تحالف يونيو السابق وغالبية القوى الوطنية كانت تقف في صفوف المعارضة، واليوم الصورة مختلفة، إذ هناك فريق يقف مع النظام الحاكم وآخر ينشط وسط المعارضة، وثمة شريحة كبيرة حائرة بينهما وتنتابها نوازع شتى، فهي تعتقد أن نظام الرئيس عبدالفتاح السيسي حقق إنجازات تحتاج إلى إعادة ترتيب في الأولويات، وتجد أن المعارضة لا تتوافر لها الحنكة الكافية للرهان عليها في قيادة المرحلة المقبلة.

يعد تشكيل تحالف من الطرفين وسيلة جيدة لعبور هذه المرحلة وتخطي صعوباتها الاقتصادية التي تمثل عنصرا بارزا يحتاج إلى قدر كبير من التلاحم الوطني، فقد جرى تجاوز أخطر مرحلة أمنية مرت بها الدولة وقضي فيها على غول الإرهاب، وما إن انتهى حتى وجدت نفسها أمام حزمة من العقبات الخارجية، شرقا وغربا وجنوبا، تفرض نوعا من الوفاق الوطني لمواجهتها بدرجة عالية من الصرامة.

لن تكون التحديات الخارجية بمنأى عن النيل من مصر طالما أن هناك فجوة كبيرة بين السلطة والمعارضة، ومن الصعب التعامل معها وتحقيق التفوق إذا لم تصبح القوى الوطنية متكاتفة، ولديها قناعات لترك ما هو أصغر والذهاب إلى ما هو أكبر بالتعاون والتنسيق لتدشين تحالف يتواءم مع التطلعات لتقديم نموذج لجمهورية جديدة.

لا توجد جمهورية جديدة يمكن تشييدها من خلال مجموعة تعتقد أنها الأذكى والأقدر وتملك وحدها الحكمة ومفاتيح القرار وتدير كل شؤون الدولة بمفردها، في غياب أي دور لمن هم خارجها، وتأميم الفضاء العام وحجم تداول المعلومات، وعدم الاقتناع بأي اجتهادات موازية، ناهيك عن التأسيس لحياة سياسية سليمة خالية من الفساد.

من أهم شروط أي تحالف، التوافق حول أجندة وطنية والبحث عن القواسم وتطويرها، والحد من تضخم طرف على حساب آخر، مع مراعاة الأوزان النسبية على مستوى الأشخاص والوظائف والمؤسسات والكيانات المؤثرة وفقا لما أقره الدستور المصري.

تبدو الفرصة مهيأة لإعادة ضخ دماء جديدة تعيد إلى الأذهان المعنى الذي قام عليه تحالف الثلاثين من يونيو سابقا، فإذا كان الزمان والمكان والأشخاص والتقديرات ولائحة الخصوم والأعداء والأصدقاء والحلفاء تغيروا، فالنواة التي انطلق منها رواد يونيو صالحة للتعامل معها وتوظيفها بالصورة التي تتناسب مع المستجدات.

تستعد مصر لدخول انتخابات رئاسية بالغة الأهمية والحساسية الفترة المقبلة، ومن الضروري أن تجرى بطريقة تحوي منافسة حقيقية بين المرشحين، ومن مصلحة الرئيس الفائز فيها عن جدارة أن يتولى رئاسته في أجواء إيجابية.

ولذلك فالطريقة التي سوف تجرى بها هذه الانتخابات تحدد إلى حد بعيد شكل المرحلة القادمة في مصر، ومن حق الجميع أن تتوافر فيها مساحة كبيرة من النزاهة والشفافية والمصداقية، فالتشكيك فيها لن يضمن للفائز فترة رئاسية مريحة.

إذا انطلق تحالف يونيو الجديد من هذه الزاوية يمكنه أن يؤسس لمرحلة سياسية جيدة يتحاشى فيها أخطاء المرحلة السابقة ويتجنب ما أفضت إليه من مشكلات بين أعضاء التحالف السابق وكل من تفرقت بهم السبل في مشارب شتى ما جعل فئة منهم ناقمة أو نادمة على ما حدث من تفاهمات بين قوى عديدة لإسقاط حكم الإخوان.

◙ مصر تستعد لدخول انتخابات رئاسية بالغة الأهمية والحساسية الفترة المقبلة، ومن الضروري أن تجرى بطريقة تحوي منافسة حقيقية بين المرشحين

تخلص المصريون من جحيم الإخوان، لكنهم لم يتخلصوا بعد من الأمراض المزمنة في حياتهم السياسية، وقد تكون الظروف التي مرت بها البلاد فرضت اللجوء إلى بعض الخيارات الغامضة، غير أن الفرصة لا تزال مواتية لتصويب المسارات من خلال إعادة بناء الجسور بين حلفاء يونيو السابقين ومن تبقّى منهم وكل من رغبوا في تصحيح ما وقعت فيه ثورة يونيو من مطبات كان يمكن تلافي الكثير منها.

أطلق الرئيس السيسي خطوة الحوار الوطني التي عبرت عن رغبة في بدء مرحلة واعدة، حيث حملت اعترافا ضمنيا بأن هناك خللا وقع في المرحلة السابقة يمكن تصحيحه بزيادة مستوى التوافق بين القوى المختلفة، والذي لم يكن قاصرا على الشق السياسي، حيث ضم الحوار شقا اقتصاديا وآخر مجتمعيا أيضا.

يدلّ التقسيم على أن التغيير أو التعديل لن يقتصرا على شق بعينه، بل يشملان كل الزوايا الحيوية في الدولة التي تحتاج إلى إعادة نظر في ما حدث بها من تحركات وإجراءات وما لحق بها من تطورات مفصلية سعيا نحو ترسيخ مفاهيم تعيد الالتحام إلى الجسم الوطني العام في ظل ما يعتري الدولة من أزمات تحتاج إلى معالجة فورية.

تمثل الفكرة التي بني عليها تحالف يونيو مدخلا للتغيير المطلوب في المرحلة المقبلة، مع تعديلات تتواءم مع ما جرى من تطورات داخلية وخارجية، ففي المرة السابقة كان هدف التحالف منصبا على الإخوان، بينما الآن باتت الجماعة من الماضي، لكن حجم التهديدات في المستقبل سوف يزداد صعوبة، وتحتاج الطبقة الحاكمة، بصرف النظر عن هويتها وتوجهاتها وأفكارها وحساباتها، إلى إجماع سياسي وستار شعبي يوفران لها حماية تمدها بعناصر تساعدها على الصمود والتصدي والاستمرار.

من دون تشكيل تحالف وطني واسع له محددات ومعالم واضحة سوف تصبح التهديدات مضاعفة، فلا توجد سلطة يمكنها مجابهة الكثير من العراقيل بلا غطاء سياسي وشعبي متماسك، يعيد الثقة ويزيل الهواجس ويقطع دابر المخاوف التي تراود البعض من المصريين حول المصير الذي يمكن أن تؤول إليه الدولة وسط تراكمات أزمة اقتصادية صارت تقصم ظهر شريحة كبيرة من المواطنين.

8