جيهان عُمر شاعرة مصرية مفتونة بتصوير الوجوه الضاحكة

الشاعرة والمصورة الفوتوغرافية تضخ الطاقات الإيجابية لقهر الحزن بلقطات مُبهجة تنثرها كل يوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
السبت 2020/04/25
تنشر الفرح لكسر العزلة والخوف من كورونا

تقاوم الشاعرة والمصورة الفوتوغرافية المصرية جيهان عُمر سياج الحُزن الناشئ من فايروس كورونا المستجد وأرواح ضحاياه شرقا وغربا وتحديده لإقامة العالم في مساحات ضيقة وخوف الناس منه هنا وهناك، بلقطات مُبهجة تنثرها كل يوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي مُعلنة التحدي لقهر الحزن.

في اعتقادها أن لحظات البهجة هي الجمال والحياة المُستحقة الجديرة بالتسجيل. كُل بسمة في رأيها دليل على استمرار الحياة وانتصارها على الهموم والمآسي، وكل ضحكة مُحفز صمود وإيمان بأن الناس قادرون على تخطي المشكلات والهموم المحيطة. فهي لا تقف في الضفة ذاتها التي اختارها شُعراء رواد من السابقين تصوروا أن مهمتهم هي التنبؤ بالمزيد من الأحزان والمآسي، مثلما كتب الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور يوما “رُعبٌ أكبر من هذا سوف يجيء، انفجروا أو موتوا”.

تقول لـ”العرب” إن ضخ الطاقات الإيجابية ضرورة في هذه الظروف، ومهمة الشاعر جمالية بالدرجة الأولى، وهناك أناس يتأثرون بالكلمة وآخرون يتأثرون بالصورة، لذا تُركز مع كونها شاعرة ومصورة فوتوغرافية على نشر الجمال والسرور بالصورة والكلمة معا، لافتة إلى أن الفن عموما يمكنه أن يقاوم موجات الإحباط في كافة المجتمعات، وهو ما يحتاج إليه الناس بشدة هذه الأيام.

عُمر واحدة من شاعرات جيل التسعينات، درست الفلسفة في كلية الآداب جامعة القاهرة، وتخرجت في نهاية التسعينات، قبل أن تمارس فكرة التجريب في الشعر الحر لدرجة جعلتها معبرة عن لون جديد يتجاوز فكرة القصائد المستقلة إلى المقاطع الشعرية المنفصلة شكلا والمتحدة موضوعا.

بدت تجربتها الإبداعية جذابة منذ أن أصدرت ديوانها الأول الذي حمل عنوان “أقدام خفيفة”، عن دار ”شرقيات“ بالقاهرة، لتحظى باهتمام النقاد ومترجمي الأشعار إلى لغات أخرى. وبعد عامين أصدرت ديوانها الثاني “قبل أن نكره باولو كويلو”، وترجم إلى اللغة الفرنسية، ثم أصدرت بعد ذلك ديوانها الثالث المعنون بـ”أن تسير خلف المرآة” مُقدمة فيه مشاعرها الإنسانية في تأمل تجربة موت رفيق دربها الفنان هاني الجويلي، في حادث سير مفاجئ.

قبل أن نكره كويلو

صوت جيهان عمر يحضر بقوة في مؤتمرات ومهرجانات الشعر العالمية، بعد ترجمة معظم أشعارها إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والرومانية والإسبانية والهولندية، والصينية والكورية، وحتى الكردية.
صوت جيهان عمر يحضر بقوة في مؤتمرات ومهرجانات الشعر العالمية، بعد ترجمة معظم أشعارها إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والرومانية والإسبانية والهولندية، والصينية والكورية، وحتى الكردية.

بات صوت الشاعرة حاضرا في مؤتمرات ومهرجانات شعر عالمية بعد ترجمة معظم أشعارها إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والرومانية والإسبانية والهولندية، والصينية والكورية، وحتى الكردية.

إلى جانب الشعر، احترفت عُمر فن التصوير الفوتوغرافي، واعتبرته نموذجا إبداعيا لتخليد مشاعر الإنسان، وتعكس صورها الفوتوغرافية مشاعر سرور حقيقية، تلامس حنايا القلب، وتضخ طاقات إيجابية، تستفز عصافير الأمل والتفاؤل للتحليق أمام عيني كُل مشاهد. وتنتشر عبر فضاء التواصل الإلكتروني عشرات الصور التي التقطتها مُعبرة فيها عن جمال السعادة على وجوه الناس، وحاكية بها كيف تُساهم البسمة الرائقة في التعبير عن حُسن الإنسان، رجلا كان أم امرأة. 

من الصور التي التقطتها عدستها في هذا الصدد صورة لطفلة صغيرة رقيقة الملامح، تُمسك بكفيها كوبا جميل الشكل وتشرب منه الحليب صباحا وعلى وجهها ارتسمت سعادة ورقّة إنسانية، ينبعث من عينيها شعور طاغ بالأمل. منها لقطة أخرى لرجل بسيط يرتدي ثيابا رثة ويجلس فوق سور كورنيش الإسكندرية على البحر المتوسط ويضع ساقا فوق أخرى، يمسك بين أصابعه وردة صغيرة حمراء، وعلى وجهه ترتسم ابتسامة عفوية، وتبدو نظرته باعثة لطمأنينة وسلام نفسي عام، فهو لا يكترث لشيء، ولا يخاف من غد.

هناك صور لمثقفين معروفين يضحكون دون افتعال في لقطات تُركز على الوجه، وتقطع بتعمد جانبا من شعر الرأس، ليُمكن من خلالها قراءة نظرات الأمل في عيون جميلة، منها الروائية المصرية ميرال الطحاوي التي تظهر في إحدى اللقطات وفوق عينيها نظرات سلام نفسي مريحة.

بينما يظهر الروائي المصري السوداني طارق الطيب في صورة أخرى ضاحكا ببساطة وعفوية ظاهرة، فضلا عن صورة للفنان التشكيلي الأردني إياد كنعان وهو يبتسم متفائلًا.

نصوص ضد الحزن  

تتناغم مع الصور المبهجة نصوص جديدة للشاعرة ترسم ظلالا من التفاؤل والسعادة على النفس الإنسانية، محاولة مقاومة فكرة تقليدية ظلت سائدة لفترات طويلة كانت ترى أن “أعذب الشعر أحزنه”. تقول “أراقب التجاعيد الصغيرة على وجوه أصدقائي وأتبرأ منها جميعا، فلحُزن لا يفيد، ولا يُغير واقعا، ولا يرد غائبا، إنما الحياة يجب أن تمضي وتستمر”. وإذا كانت الشاعرة اختبرت تجربة ألم شديد بفراق زوجها في حادث سيارة، فقد أثبتت أن تجاوز الألم ضرورة واستدعاء البهجة مهمة كل مبدع يسعى نحو سلام الإنسان ورقيّه. نقرأ في ديوانها الثالث إرهاصات الألم والحزن، ونلحظ في نصوصها الحديثة التي تستعد لإصدارها في ديوان جديد أنها تجاوزت ذلك تماما، وعيناها الشعريتان باتتا مثل عدستها تبحثان عن الجمال المتمثل في ضحكة أو بسمة أو نظرة سلام.

أفكار متجددة

الترويج للأمل هو اليوم على رأس مهمات الأدباء والمصورين المصريين، في ظل أوضاع الخوف من انتشار الوباء في البلاد.
الترويج للأمل هو اليوم على رأس مهمات الأدباء والمصورين المصريين، في ظل أوضاع الخوف من انتشار الوباء في البلاد.

تتجاوز لغة عُمر المتجددة وحدتها وذكرياتها الأليمة وهواجس الماضي وآلام الحياة، وترى نفسها قادرة على مواجهة كل هذه الأحزان، فهي بتعبيرها “لست وحيدة طالما تتبعني تلك النجمة أينما ذهبت”. تستطيع محو الأسى والأحزان وتبديدها وشطبها تماما من حياتها لدرجة أنها تقاوم كل ما هو قديم، متطلعة إلى النور عبر النوافذ المفتوحة، وتقول “قلت لك، عن حساسيتي الشديدة من الغبار، عن شغفي بتنظيف الأماكن الجديدة، إنني لا أزيل الرفوف وحدها، بل أزيح الأثاث القديم كله، في كومة واحدة، قبل أن أنادي على بائع الروبابيكيا، بصوت طازج. قلت لك من البداية، إنني أحب أن أغمر الأرضية بالمياه، أتلمس برودتها بقدمي الحافية، قلت لك، إنني أحب أن أفتح النوافذ، قبل أن أحتار أيهما القمر، أيهما الشمس”.

تؤمن بضرورة بث الأمل وترى نفسها تُشبه الماء يتدفق دون أن يعلم إلى أين يذهب، وفي نصها تقول “كلما وجدت شقا أشق طريقي، لا أستطيع التوقف حينما يكون التوقف ضروريا، أجدني في أماكن غريبة، لم أكن أخطط للذهاب إليها، فقط لأنني قابلت منحدرا. وهذا الماء الهادر قد يجرف الأشجار ويدفن في طريقه بعض المدن، لكنه أيضا يُطفئ النار“.

الشعر وحي مُباغت بالنسبة إليها، ويأتي بلا استئذان، أو كما تقول “لا يطمع سوى في الانفراد بك وحيدا تماما وبعيدا عن الصخب، فلا أحد يرغب في أن يراه الآخر عاريا وهذه تماما هي لحظة الشعر، لكن أنت مع الشعر عارٍ ووحيد تحت خيمة”.

الناقد رضا عطية يشير إلى سمة تميز جيهان عمر في دراسة نقدية كتبها عنها مؤخرا، تتمثل في القدرة على التخلص من تكرارية الموضوعات نفسها التي اعتاد عليها الكثير من الشعراء، موضحا أن كل شاعر أسير قطبين؛ التقليد والتجديد

وتتابع “كلما بدأت في كتابة نص أشعر أن ذاكرتي مثقوبة، فالكلمات صارت بمحاذاة قدمي، وقلبي فارغ، أي وعاء هذا الذي يفرغ ما بداخله أولا بأول، الإنسان يرتوي بالامتلاء، وأنا مبتلية بإفراغ كل شيء، ثقوب كثيرة في وعاء من فخار، التسريب بطيء ولا أشعر به، خفة تتسلل إليّ، بلل لطيف يرطب القلب، سريان لأشياء وهمية في مسارات الطاقة، حركة دؤوبة على مدار اليوم، يبدو وكأنه ليس هناك امتلاء في هذه الناحية من العالم، أتحرك بخفة، أسرع من خطواتي، أعدو، أنام، مثل زجاج مصقول ينزلق الماء وتخدشني الكلمات وقد أتفتت على نحو مفاجئ“.

فنلمح بين كلماتها تصورا فلسفيا لطيفا للحياة يدفعها إلى قلب الحقائق، والتأمل في الموت نفسه بنظرة صادقة تستهين بكل وجع، وتستنطق الأوجاع لتبصر فيها معاني الجمال. تكتب في أحد نصوصها “لا ترتدي الأبيض، يجعلك نقية، لكنه يكشف ضعفك، لا ترتدي الأحمر، يجعلك فاتنة. لا ترتدي الأصفر، تبدُوين كقطعة من الشمس، لكنه يؤكد وحدتك. ارتدي الأسود، الأسود فقط، الأسود الذي يشعرني أني مِت، وأنك في فترة الحداد، تمزجين الدموع“.

تبدو عُمر مختلفة في التقنية، مُتجددة في الأفكار، لدرجة دفعت الناقد الأدبي رضا عطية إلى أن يمسك بسمة مميزة لها في دراسة نقدية نشرها عنها مؤخرا، تتمثل في القدرة على التخلص من تكرارية الموضوعات نفسها التي اعتاد عليها الكثير من الشعراء، موضحا أن كل شاعر أسير قطبين يشدانه، الأول هو القديم التقليدي والمعتاد، والثاني هو الرغبة في التجديد والتطوير.

تجربة إبداعية جذابة
تجربة إبداعية جذابة 

وأكد أن فكرة التكرار آلمت الأوائل لدرجة أن الشاعر الجاهلي عنتر بن شداد تساءل في بيت شعر “هل غادر الشعراءُ من مُتردِم؟”، مشيرا إلى أنه لا يوجد معنى، أو وصف، لم يطرقه الشعراء السابقون، ما جعل التكرار سمة في الشعر العربي.

تغزل بالشعر معانيَ جديدة، ربما بانت ملامحها في تعاملها مع تجربة الفقد، ورسمت من خلال مقاطع شعرية تناولت وفاة زوجها أحاسيس ورؤى فلسفية غريبة، ونسجت جدارية تعاين الموت عبر زوايا متعددة ووفق أبعاد تصويرية متفاوتة.

ووفقا لعطية، تستعيد مثلا لحظة الوفاة نفسها، بمقطع عنوانه “خبر” تقول فيه “مصرع موسيقار ونجاة زوجته الفنانة التشكيلية، لن أقف عند أخطاء الجريدة، كان يضع نوتة موسيقية صغيرة في جيب سترته، كنت أرسم، سحابة لا تستقر على حال”.

رغم العواصف والآلام القدرية ترى حلاوة الحياة أهم ما يتبقى من كل إنسان، فتكتب عمر “لا تخبره بأنني كنت ألتهم الطبقَ الأخير من الكريم كراميل، قل له إن الحياةَ كانت حلوةً، وأنك ممتنٌ كثيرًا، لتلك التجربةِ القصيرة، قل له إن المشهدَ الختاميَّ، لم يكن تصورًا كلاسيكيًّا، لنهاية تراجيدية، بل إن صرخات زوجتك، لم تكن سوى ذبذبات معلقةٍ في الفراغ”.

دعوة للابتسام

تحرص دوما على حض الناس على الابتسامة والعطاء، وعدم التوقف لحظة عن التعبير عما يجيش في النفوس، فالتلقائية والعفوية سمتان رئيسيتان في كسر حواجز الخوف والقلق، ومقدمتان طبيعيتان لمواصلة الحياة بأقل مساحة من القلق.

يجب أن تظهر نماذج في حياتنا الحالية المليئة بالكوابيس والفزع والرعب الذي نشره فايروس كورونا المستجد من حولنا، فالعزلة تكاد تقضي على أحلامنا وآمالنا في غد أفضل، والألم يعتصر الكثير من القلوب، والوجع يكاد يوقف العقول عن التفكير.

أصبح الترويج للأمل واحدة من مهمات الأدباء والمصورين والإعلاميين، لأن استمرار الحياة على هذا المنوال يجعلها تتوقف فجأة ليس بسبب الوباء، لكن جراء الخوف منه، حيث تحول كورونا إلى علامة للفزع الإنساني، وأداة من أدوات قتل الأحلام.

تبعث اللقطات المبدعة التي تنشرها جيهان عُمر عبر أشعارها وصورها، في نفوسنا الرغبة في الحياة، وتقوي العزيمة، وتمنح الإرادة دفقة جديدة نحتاج إليها في هذه اللحظات العصيبة، لم يعد الناس قادرين على تحمل المزيد من العناء، فقد قدمت الجائحة عِبرها ودروسها بما يكفي لجعل الحياة بعدها شيئا مختلفا.

12