جنون أم طموح: إستراتيجية لسنوات في سوريا

السبت 2014/09/27

وأخيرا، باتت للولايات المتحدة الأميركية إستراتيجية لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق. قبل نحو شهرين من اليوم أعلن باراك أوباما أن “لا إستراتيجية” لمواجهة التنظيم الإرهابي، لكنه اليوم يعلن بثقة إستراتيجية هي أقرب إلى الإستراتيجيتين؛ واحدة للعراق وأخرى لسوريا.

في العراق، تنطوي الإستراتيجية الأميركية على شقين، سياسي وعسكري. ويبدو أن تلازم المسارين هو حجر الأساس في هذه الخطة الأميركية. إذ لم يبدأ الشق العسكري إلا بعد الإطاحة بنوري المالكي، ومباشرة عملية سياسية لم تسفر عن منتج سياسي نهائي بعد.

العملية السياسية في العراق تسير بتسارع واضح، ومن المتوقع أن تحمل في ثناياها جديدا يتعدى التقاسم السياسي على القواعد الحالية القائمة، لكن المفرز النهائي لها لن ينضج إلا في خضم سير العمل العسكري، أو الشق العسكري من الخطة الأميركية. إن دخول الولايات المتحدة بقواها العسكرية ومستشاريها لقيادة الحرب على “داعش” العراق سوف يبلغ الذروة بعد حين، وعندها يتوقع أن تبدأ تطورات سياسية أكثر جذرية على مستوى النظام السياسي العراقي، حيث لن يكون بمقدور القوى السياسية الطائفية المهيمنة حاليا رفض الشكل الجديد الذي ترسمه الولايات المتحدة الآن، وستفرضه في الوقت المناسب.

في سوريا، ورغم إعلان إستراتيجية أميركا بشأنها، يبقى أغرب ما في الأمر هو افتقاد تلك الإستراتيجية للشق السياسي، كما هو الحال في العراق. هكذا، وضعت أميركا إستراتيجيتها في سوريا بناء على هدف عسكري خالص ينقسم بدوره إلى شقين. الشق الأول هو ضرب مواقع “داعش” وملاحقتها لإيقاف توسعها وحصرها في مناطق محددة، وصولا إلى تدميرها وسحقها “بشكل نهائي”. أما الشق الثاني فيتعلق بالهجوم البري على مواقع “داعش” وسد الفراغ الذي ستخلفه بعد انسحابها من بعض المناطق، وسيتم ذلك بتدريب صنف محدد من المعارضة السورية المسلحة، أو “المعارضة المعتدلة”، وتسليحها لتكون فصيلا نوعيا في الأشهر والسنوات القادمة.

هنا يبدو التفارق جليا في إستراتيجية أميركا في العراق وسوريا، ففي حين لم تبدأ الضربات الجوية والعمل العسكري في العراق، إلا بعد بداية العملية السياسية وتقديم النظام العراقي تنازلات كبيرة. باشرت أميركا عملياتها العسكرية في سوريا بمعزل عن أي ضغوط على النظام لتقديم تنازلات والتوصل إلى حل سياسي وإن ببنود عريضة. وهو ما كان من شأنه أن يجعل إستراتيجية مواجهة “داعش” في سوريا أكثر تماسكا، في حين تبدو اليوم ضبابية ولا يمكن التنبؤ بنتائجها على الإطلاق.

ربما تعبر أميركا عن تخوفها من ضبابية استراتيجيتها في سوريا بالهروب نحو الحديث عن أن العملية ستستغرق زمنا طويلا. يجري الحديث عن سنوات، ما يزيد من الشكوك وعدم اليقين. فأي إستراتيجية توضع على مدى سنوات ستكون عرضة للفشل في جوانب عديدة. وحتى في أكثر البيئات السياسية والجغرافية توازنا واستقرارا، تفشل الاستراتيجيات طويلة الأمد، كيف إذن ببيئة سياسية عسكرية مثل سوريا، حيث الواقع شديد التعقيد وغني بالتطورات بصورة مذهلة.

لا تأبه الولايات المتحدة لهذا التقليل من شأن إستراتيجيتها، فهي تظهر يوما بعد آخر عزمها وإصرارها على المضي فيها. ويعتبر ذلك تطورا جديدا بصورة ما، إذ لم تبد أميركا خلال عمر الثورة السورية عزيمة على التدخل وتغيير الأمور كما تفعل اليوم.

أما برنامج التدريب الذي لا توجد معلومات كثيرة حوله، فيبدو جديا هو الآخر أكثر من أي وقت مضى. خصوصا أنه ترافق على ما يبدو بعمليات عسكرية على الأرض في سوريا قد تمهد الطريق لدخول القوات المدربة.

وهل كان التفجير الذي أودى بحياة نحو 30 شخصا من قيادات حركة “أحرار الشام” قبل أيام من بداية الضربات الجوية محض مصادفة؟ الآن ربما نستطيع أن نفهم من قام بالتفجير ولماذا، وكيف يتم تتبع التنظيمات الجهادية الرافضة للإستراتيجية الأميركية والمتعاطفة مع “داعش”.

التخلص من قيادات “أحرار الشام” تلاه قرار أميركي بوضع “الحركة الإسلامية” و”جيش المهاجرين والأنصار” بالإضافة إلى عشرة شخصيات أخرى على قائمة الإرهاب، حسب بيان صادر عن وزارة الخارجية الأميركية قبل يومين.

لكن الرقم المعلن للمقاتلين الذين سيجري تدريبهم يبدو متواضعا ومثيرا للسخرية. 5 آلاف مقاتل لمواجهة “داعش” والتنظيمات الجهادية الأخرى التي تضم بمجموعها بين 40 و60 ألف مقاتل. لكن، من غير المرجح أن تغفل الإستراتيجية الأميركية هذا “العيب” الواضح والقاتل. فإذا صح الرقم المعلن لعدد المقاتلين السوريين المتدربين، فلن يكون البرنامج التدريبي إلا لتخريج قادة عمليات يتولون إدارة فصيل عسكري جديد، ربما يتشكل اليوم من الكوادر العسكرية المتناثرة في سوريا هربا من الضربات العسكرية المتواصلة.

إن صح وجوده فعلا، فسيكون برنامج تحكم وسيطرة بفصيل عسكري سوري، ينتظر أن يكون الأقوى على الأرض خلال السنوات القادمة. بالنسبة إلى البعض، فإن الحديث عن برنامج يستمر لسنوات قبل حصد نتائجه في سوريا هو ضرب من العبث والجنون. فيما يراه آخرون طموحا يفرضه انسداد أفق الحل السياسي، ونوعا من التخطيط الطويل الذي افتقدت إليه مؤسسات الثورة السورية.


كاتب فلسطيني سوري

9