جريمة ملجأ العامرية.. بقايا من سراب ذاكرة

أكثر من 400 روح بريئة لم تتبق منها سوى الذكريات وحفرة أحدثها صاروخ في السقف وآثار حديد الإسمنت المسلح وحيطان سوداء لونتها آثار جثث محترقة ومتفحمة وشموع توقد وذكريات سوداء.
الخميس 2024/02/15
ذكريات ذلك اليوم الأسود

في مثل هذه الأيام من سنة 1991، وتحديداً في فجر الثالث عشر من فبراير، كانت ماكنة الموت الأميركي تحصد أكثر من 400 روحاً بريئة، جلّها كان ينوي الاختباء من جحيم القصف الذي كان يُخيّم على بغداد بأحداث عاصفة الصحراء التي انطلقت طائراتها تجوب سماء بغداد لتحرق البشر والحجر، لكن من لم يمت بالقصف مات انصهاراً في ملجأ العامرية.

كثيرة هي القصص التي سمعناها من أشخاص عايشوا تلك الجريمة، ومُحزِنة الحكايات التي تناهت إلى مسامعنا عن أصوات أرواح تجوب المكان بصور شتى، فهناك من سمع أصوات الأطفال وضحكاتهم وهم يلعبون، وآخرون يؤكدون سماع همسات نسوة يتبادلن أحاديث المساء قبل النوم، وأحاديث أخرى عن أرواح كانت تلقي التحية على من يمر بجانب الملجأ، ذلك المكان الذي حط فيه ملك الموت ليأخذ معه قوافل من أرواح العراقيين.

في تلك الليلة الباردة والمظلمة حيث اعتاد أهالي المنطقة على قضاء لياليهم الطويلة في الملجأ المخصص، أو هكذا كانوا يظنون، للاحتماء من الغارات الجوية. كان المكان “ملاذاً آمناً” للكثير من الأسر التي تذهب إليه بعد العصر لتوفر مقومات الحياة، من مولدات كهرباء وماء وتجمع آمن، لأن منازلهم تخلو من تلك الأساسيات التي قصفها الأعداء.

◙ جريمة لازالت تثبت أن دم هذا الشعب أرخص من شربة ماء. وما يستفز المرء ذلك الصمت الحكومي وعدم المطالبة بحقوق الضحايا، ربما هي العمالة أو الخوف أو الخنوع

كان الملجأ عبارة عن كانتونات بأقسام يتوزع فيها الرجال والنساء والأطفال للمبيت وقضاء الليالي والعودة صباحاً إلى منازلهم.

لم تكن ساعات ليلة “14-13” من فبراير 1991 سوى أجراس الموت التي دقت ساعتها حين استهدف الطيران الأميركي الملجأ فجراً بصاروخين، أحدث الصاروخ الأول ثقباً من خلال نظام التهوية بعد أن حصلت الولايات المتحدة على خرائطه من الشركة الفنلندية المنفذة له، وقد كان مصمماً للوقاية من الضربات النووية ويصعب اختراقه إلا بفتح فجوة في نقطة ضعيفة اُستدِلّ عليها من خلال الخريطة للجهة المنفذة.

ونَفَذ الصاروخ الثاني من خلال الفتحة التي أحدثها الصاروخ الأول مما أحدث ارتفاعاً في درجات الحرارة سبب انصهاراً للجدران وذوبان من كان موجوداً والتصاقه فيها، وتحولت تلك الأجساد الطرية إلى كتل سوداء متفحمة التصق أكثرها بحيطان الملجأ.

لم يكد يتبين الخيط الأبيض من الأسود وتشرق شمس ذلك اليوم الأسود، حتى كان الجميع يركض مجنوناً بلا وعي أو إدراك في شوارع المنطقة القريبة من الملجأ للبحث عن عوائل تأخر قدومها إلى المنازل، كان هناك الأب الذي يبحث عن زوجته وأطفاله، وذلك الذي يبحث عن والديه وإخوته، وتلك التي تجوب الشوارع على أمل أن تعثر على بناتها الغائبات عن حضنها في تلك الليلة.

كان السياج الذي يحيط بالملجأ عظيماً بالجموع، فالكل كانوا سكارى وما هم بسكارى، الجميع كان يصرخ، ينتحب، وانهار البعض الآخر والعيون ترنو إلى باب الملجأ عسى أن يظهر أحد من الناجين.

بعد سويعات حضرت إلى المكان سيارات الإطفاء على أمل أن تساعد في التخفيف من وهج الانصهار، ولكن بخطأ أو غباء من المسؤول عن الإطفاء، تم إغراق المكان بعد أن أمر برش مداخل الملجأ بخراطيم المياه مما تسبب بإنهاء حياة البعض ممن بقي حيا، ومن لم يمت انصهاراً مات غرقاً وتحول الموقع إلى مقبرة جماعية.

في عصر ذلك اليوم الحزين كانت شوارع المنطقة وأحياؤها عبارة عن سرادق للعزاء التي اختفى عنها المعزون حيث لم يبق سوى من فقد زوجته وأطفاله وتلك التي فقدت بناتها، لكن الحزن الأكبر الذي أبكى الجميع هو الشاب الذي فقد والديه وإخوته جميعاً وجلس وحيداً في البيت يسأل نفسه كيف سيعتاد الوحدة في هذا الزمن.

◙ كان المكان "ملاذاً آمناً" للكثير من الأسر التي تذهب إليه بعد العصر لتوفر مقومات الحياة، من مولدات كهرباء وماء وتجمع آمن، لأن منازلهم تخلو من تلك الأساسيات التي قصفها الأعداء

كان التبرير الأميركي لقصف ملجأ العامرية بعذر أقبح من الذنب، وتحدثوا عن معلومات استخباراتية حصلوا عليها بزيارة قام بها الرئيس صدام حسين وأحد نجليه إلى الملجأ للاختباء. لكن هل كان ذلك مبرراً للقتل وحصد تلك الأرواح البريئة.

أكثر من 400 روح بريئة لم تتبق منها سوى الذكريات وحفرة أحدثها الصاروخ في السقف وآثار حديد الإسمنت المسلح وحيطان سوداء لونتها آثار جثث محترقة ومتفحمة وشموع توقد وذكريات سوداء أثقلها تراب السنين.

جريمة لازالت تثبت أن دم هذا الشعب أرخص من شربة ماء. وما يستفز المرء ذلك الصمت الحكومي وعدم المطالبة بحقوق الضحايا، ربما هي العمالة أو الخوف أو الخنوع لا ندري، لكن المؤكد أن جريمة ملجأ العامرية ستبقى وصمة عار في جبين من يتباهى بالديمقراطية.

لو كتب التاريخ عن وصف هذه الجريمة لوضعها في مصاف جرائم هيروشيما ونكازاكي في الإبادة الجماعية.

رحلت عن الذاكرة المثقوبة الكثير من ذكريات ذلك اليوم الأسود، لكن آثارها ظلت تُذكّر العراقيين بجرائم إبادتهم التي لازالت متواصلة إلى اليوم.

خارج النص: صندوق الذكريات الذي أخرج هذه السطور هو من يوميات أحداث تلك الجريمة التي كان الكاتب أحد الشهود على أحداثها.

8