جدل "سيداو" في السودان.. أدلة القطع مع مرحلة الإسلاميين

في السودان جدل جديد مثاره اعتزام الحكومة الانتقالية الانضمام إلى جميع الاتفاقيات الدولية ومن ضمنها اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة “سيداو”. والجدل المشار إليه يعكس المرحلة التي يشهدها السودان بعد إبعاد الإسلاميين عن الحكم، واستعداد البلد للدخول إلى مرحلة جديدة عنوانها المركزي الدولة المدنية التي تحمي جميع أعضاء المجتمع وتحافظ عليهم بغض النظر عن اختلاف انتماءاتهم الدينية والقومية والفكرية.
الخرطوم – جدل سياسي بين الأحزاب ووسط مواقع التواصل الاجتماعي يشهده السودان هذه الأيام بخصوص اعتزام الحكومة الانتقالية الانضمام إلى جميع الاتفاقيات الدولية، ومن ضمنها اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة “سيداو”.
وامتد الجدل إلى خطب الجمعة ووسائل الإعلام المحلية، وسط مخاوف من انقسامات أيديولوجية تلقي بظلالها على الفترة الانتقالية بالسودان.
النقاش حول الانضمام إلى اتفاقية سيداو، ليس وليد اللحظة الثورية في السودان، بل إن النظام السابق برئاسة الرئيس السوداني المعزول عمر حسن البشير أفصح في 28 مايو 2018، عن عزمه المصادقة على اتفاقية سيداو، مع التحفّظ على بعض البنود على غرار ما فعلته المملكة العربية السعودية.
قراءات كثيرة اعتبرت أن النوايا الرسمية السابقة، لم تكن نتيجة اقتناع بجدوى التوقيع على الاتفاقية، أو مراهنة على جدواها الاقتصادية والاجتماعية، بل كانت تكتيكا يراد به فتح كوة خارجية للنظام السابق. حيث تخوّف بعض المسؤولين في النظام السابق من أن جهات أوروبية تعرقل انضمام السودان إلى منظمة التجارة العالمية بسبب امتناعه عن الانضمام إلى معاهدات دولية بينها سيداو وميثاق المحكمة الجنائية الدولية.
هوس ديني
رئيس المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم السابق) إبراهيم غندور، وضع صورة على صفحته الرسمية بموقع فيسبوك، بها عبارة “لا.. لسيداو”. وقال إنها أكثر وثيقة في العالم تضرب ثقافتنا الإسلامية والسودانية.
وأشار غندور، إلى أن أبرز المخالفات الشرعية في اتفاقية سيداو، هي أن المادة الثانية من الاتفاقية تنص على أنه يجب على الدول الموقّعة إبطال كافة الأحكام واللوائح والأعراف التي تميّز بين الرجل والمرأة من قوانينها، حتى تلك التي تقوم على أساس ديني.
وتابع “هذه مخالفة واضحة للشريعة الإسلامية، وبمقتضى هذه القوانين تصبح جميع الأحكام الشرعية، المتعلقة بالنساء باطلة ولا يصح الرجوع إليها أو التعويل عليها، وقوانين الشريعة فيها تمييز للمرأة، وليس تمييزا ضد المرأة، كما هو تعريف سيداو”.
وأوضح غندور، أن المادة 16 هي أكثر المواد خطورة في الاتفاقية، والتي تمثّل حزمة من المخالفات الشرعية وتشمل إلغاء الولاية على المرأة، وأن يحمل الأبناء اسم الأم كما يحملون اسم الأب، ومنع تعدد الزوجات، من باب التساوي بين الرجل والمرأة، وإلغاء العدّة للمرأة بعد الطلاق أو وفاة الزوج، والحق في الممارسة الجنسية كمهنة أو كعلاقة خارج إطار العلاقة الزوجية.
أكد كلام غندور أن حزب المؤتمر الوطني مصمم على عدم الانفصال عن الحركة الإسلامية وضوابطها الشرعية، وأن الرجل جاء ليعيد الزخم للحزب وليس لتغيير توجهاته، فهذه من المرات القليلة التي يتحدث فيها بعيدا عن دبلوماسيته المعهودة، كوزير خارجية سابق، ووجد في هذا التطور ثغرة لإعادة شمل حزب على وشك التفكك، ويقدّم طرحا يتناغم مع المنهج العام الذي يصاحبه منذ تأسيسه، وهو بذلك يتقاطع مع أحزاب إسلامية عديدة بدأت تعيد ترتيب أوراقها على الساحة السودانية، مستفيدة من الليونة الظاهرة في استهدافها، ما جعلها تعتقد أن جيوبها لا تزال نشطة في دولاب الدولة.
المساواة الكاملة
في المقابل سلمت منظمات نسوية محسوبة على التيارين اليساري والليبرالي، في 19 أكتوبر الجاري، وزير العدل السوداني نصرالدين عبدالباري، مذكرة مؤيدة للانضمام إلى اتفاقية “سيداو”.
تسلّم عبدالباري، مذكرة من منظمات نسوية بالخرطوم، خلال مشاركته في حفل تدشين قاعدة بيانات قضايا العنف ضد المرأة، ومبادرة الإصلاح القانوني لهيئة محامي دارفور، ومركز “معا” الثقافي، ومعهديْ “السلام” الأميركي، و”تنمية حقوق الإنسان” الأفريقي. ورفعت المشاركات لافتات تطالب بانضمام السودان إلى اتفاقية “سيداو”، وإلغاء قانون النظام العام والأحوال الشخصية.
مذكرة التنظيمات النسوية، دعت إلى إلغاء قانون النظام العام، والانضمام إلى العهود الدولية، ومنها ميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، والاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري.
وجاء في المذكرة الدعوة إلى إلغاء المواد والقوانين التي تهدف إلى التمييز ضد المرأة الواردة في القانون الجنائي وقانون الأحوال الشخصية. حيث قالت الأمينة العامة للحزب الجمهوري، أسماء محمود محمد طه، خلال الحفل، “لا بد من إلغاء قوانين النظام العام والأحوال الشخصية، وترسيم حقوق المساواة الكاملة بين النساء والرجال”.
وأضافت “الحكومة الانتقالية إذا لم تواجه هذا الهوس الديني سنرجع للمربع الأول. أطالب الحكومة أن تتحلى بالشجاعة الكافية لمواجهة تلك التحديات”.
ورمى تدخل الحزب الجمهوري في هذه القضية بحجر ثقيل في مياهه، فهو من أبرز أعداء الأحزاب الدينية في السودان، وبدأ يستعيد نشاطه عقب سقوط البشير، ويجد في الأجواء الراهنة فرصة للتعبير عن مواقفه السياسية الرافضة للحركة الإسلامية، والتي يعتبر أنها كبّلت البلاد على مدار ثلاثة عقود في جميع المجالات، وفي مقدمتها المرأة التي عانت من الإقصاء والتهميش، وتمثّل “سيداو” طاقة أمل لفكّ القيود، والتأكيد على ضرورة ألاّ يتخلف السودان عمّا يجري في العالم، فسواء انخرط السودان فيها أم لا، ففي كل الأحوال يجب النظر للمرأة بطريقة حداثية وليست بعيدة عن التطوّرات الحاصلة في المجتمع الدولي، خاصة أن السودان مُقبل على حزمة تحوّلات مصيرية في ملف المرأة وغيرها من الملفات الحساسة المتجمدة.
وفي 28 مارس 1996، صدر قانون النظام العام، للمرة الأولى، كلوائح محلية خاصة بولاية الخرطوم، وأثار جدلا سياسيا وقانونيا واسعا قبل تغيير النظام السابق، الذي ظل يؤكد أيضا أن لديه بعض التحفظات على اتفاقية “سيداو”.
تتسق الخطوات النسوية الجديدة مع الدور الذي لعبته المرأة السودانية في الحراك الثوري الذي أطاح بحكم البشير، والذي ظهرت ملامحه في الحضور القوي لها في الميادين والشوارع، وتحولها إلى “كنداكة” أو أيقونة، الأمر الذي تأكد بتمثيلها في السلطة الانتقالية، في شقيْها مجلس السيادة والحكومة، بما يعني أنّ هناك المزيد من الانخراط السياسي والاجتماعي ينتظرها الفترة المقبلة، على المستوييْن الداخلي والخارجي.
ولعل طرح قضية “سيداو” على نطاق واسع يعدّ من أهم الاختبارات الرئيسية، التي يمكن أن تكشف طبيعة التحركات القادمة والمسار الذي سوف تلجه في مجال المرأة وتفعيل دورها، ووقوف الحكومة بجانبها يعزّز القناعات بأنها أصبحت رقما مهمّا في المعادلة السودانية، والتضييق الذي عانت منه طوال سنوات حكم البشير آن لها أن تتحلّل منه.
تخويف بالهوية المستهدفة
في معسكر الرافضين للتوقيع على الاتفاقية ترابط الأحزاب الدينية في مواقعها، وهو دليل على أن طيّ صفحة الإسلاميين لن يكون باليُسر المتصوّر، بل إن إزالة آثار الفترة الإسلامية، وتغيير الذهنيات، عملية أكثر عُسرا من إسقاط النظام رغم سطوته وجبروته.
وفي سياق الذود الإسلامي على “الهوية السودانية” دعا رئيس حزب دولة القانون والتنمية محمد علي الجزولي، إلى إسقاط سياسات قوى إعلان الحرية والتغيير، التي تستهدف هوية أهل السودان. وأضاف “وزير العدل لم يخرج لاستلام المذكرة الرافضة لاتفاقية سيداو، هذه إهانة شديدة للمرأة السودانية وفضيحة كبرى وغباء شديد في صناعة الغبن والتفرقة بين المواطنين وتقسيم المجتمع”.
وشهد مقرّ وزارة العدل بالخرطوم وقفة احتجاجية، الخميس الماضي، للمئات من النساء اللائي رفعن لافتات “لا.. لسيداو”.. “الحرية لا تعني الفوضى”، و”الخرطوم ليست باريس”.ونظمت الوقفة مبادرة “سودانيات ضد سيداو”، ورفعت للوزارة، مذكرة اعتبرت أن “التوقيع على اتفاقية سيداو، وإلغاء قوانين الشريعة المتعلقة بالأحوال الشخصية وأحكام الأسرة، تجاوزٌ سافر لهوية وثقافة البلاد ودين الغالبية العظمى من السودانيين”.
تبدو “سيداو” أحد المؤشرات السياسية المهمّة للطريق الذي يمضي فيه السودان، والذي يجب أن يطوي في النهاية مرحلة حكم الحركة الإسلامية، بالتالي فالتجاذبات التي حدثت من وراء هذه القضية، تصلح لتكون مقياسا لما يمكن أن تظهر عليه المواقف في قضايا داخلية أشد خطورة، وقد تجد ممانعات أكثر حسما من الأحزاب الإسلامية، التي أعادت ترتيب أوراقها على ضوء المعطيات الجديدة، وتسعى إلى الاستفادة من حداثة القوى الصاعدة وقلّة خبراتها السياسية، وعدم وجود الحزب الفيصل أو الظهير السياسي للسلطة الانتقالية.