جدل رمضان.. الدستور والمنشور

الجدل المستعر في تونس مؤخرا حول قضية الإفطار في رمضان بين مدافعين عن “حق الإفطار” وبين الذائدين عن “الخصوصيات الدينية للبلاد” لا ينتمي البتة إلى جنس القضايا الدينية أو ما يترتب عنها، بل هو من صميم الجدل الفكري والسياسي المتصل بكيفية النظر إلى الحريات.
القضية بدأت بتصريح لوزير الداخلية التونسي لطفي براهم، قال فيه إن “الوزارة ستقوم بحماية شعائر الأغلبية المسلمة في تونس خلال شهر رمضان، وستُطبق القانون وتغلق المقاهي كافة في نهار رمضان”. تصريح أثار تفاعلات ذهبت أبعد من مجرد نقاش فتح المقاهي من عدمه، ولو أن ذلك نقاش مستعاد باعتبار أنه طرحُ كثيرا خاصة في سنوات ما بعد الثورة، بل إن التفاعلات السياسية والحقوقية ذهبت إلى مقارعة تصريح الوزير بما جاء به دستور العام 2014 خاصة في الجزء المتعلق منه بإقرار حرية الضمير.
في الجدل التونسي المستعر حول رمضان، مستويان من التفاعل. مستوى أول عدّ استفزازا متبادلا بين من يتعمّد المجاهرة بالإفطار ومن يدشن حملات على وسائل التواصل الاجتماعي تقول إن المسألة لا يجب أن تكون عنوة أو بالإكراه (حملة موش بالسيف) مقابل ردود فعل تنتمي إلى نفس الجنس من الانفعال، وهي المنادية بوجوب الضرب بقوة على “المعتدين على هوية البلاد ودينها“.
المستوى الثاني للتفاعل هو النقاش الحقوقي والسياسي للمسألة، وهو المنطلق من قراءات تتقصّى وجاهتها مما جاء به دستور العام 2014، والذي نص صراحة على وجوب احترام ذلك النص التشريعي سليل نضالات القوى المدنية التي فرضت احترام الحريات خاصة في الفصل السادس القائل “الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، حامية للمقدسات، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي”. الدستور الذي أقر أن الدولة تكفلُ حرية المعتقد والضمير، “يعتدى” عليه بقرار وزاري يدعو إلى غلق المقاهي والفضاءات المفتوحة في رمضان، مستدعيا في ذلك منشورا قديما يعود إلى العام 1981 (منشور رئيس الوزراء الأسبق محمد مزالي) الذي يدعو إلى مقاومة الإجهار بالإفطار والذي كُتب في ظرفية سياسية موسومة بتقارب الأخير مع الإسلاميين.
المسافة الفاصلة بين الدستور والمنشور، هي التي تتحرك من خلالها القراءات المدافعة عن حق المفطرين في ارتياد فضاءات مفتوحة، لا بمعنى “الأقلية” التي يتوجبُ احترامها بل بمعنى قداسة حقوق الإنسان وعلوية الدستور. ولعل هذا التباين المشار إليه بين دستور ادعى التصالح مع زمن الثورة، وبين منشور وزاري يلتقط لحظية سياسية قديمة انتهى مفعولها، هو ما أشار إليه المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحرية الدين والمعتقد، أحمد شهيد، خلال ندوة صحافية انعقدت خلال شهر أبريل الماضي (أي قبل اندلاع الجدل الأخير) عندما شدد على “تواصل وجود تباينات بين أحكام الدستور التونسي بشأن حماية حقوق الإنسان، والممارسة العملية”. وقال شهيد “رغم الضمانات التي يوفرها التشريع التونسي لحرية الدين والمعتقد، فإن بعض الممارسات تقوض التعددية الدينية وتقوض هذه الحرية”. وأشار إلى أن “المجموعات الدينية والأقليات لا تزال تواجه صعوبات وقيودا في الممارسة الدينية والعبادة“.
الاستناد على ما أقرهُ الدستور يجنب المدافعين عن حقوق الإنسان مطبات الوقوع في التحركات الاستعراضية (من قبيل تنظيم تحركات تتعمد الإفطار الجماعي العلني) التي تفقد القضية حججها، وتحول المدافعين عنها إلى ما يشبه النشاز في المشهد الاجتماعي العام أو الاعتداء على مقدسات الناس، بل إن هذا “الاستفزاز” لا يخدم سوى القوى التي تريد الالتفاف على المكتسبات القانونية والتشريعية التي حصلها المواطن التونسي بعد الثورة. القضية لا تحتاج صخبا أو صياحا فكريا، بقدر ما تحتاج الدفاع عن علوية الدستور، لأن تبني القضية بهذه الطريقة يأخذ المسألة إلى الفضاءات الفكرية والسياسية، يمكن أن تفيد لاحقا في طرح أسئلة متعلقة بمسألة الدين في البلاد وتأصيلها ضمن الرؤى الشخصية التي يفترض احترامها لا فرضها من قبل أي قوة كانت.
قضية الإفطار في رمضان، كما النقاش حول فتح المحلات العمومية من عدمه، يمكن أن ترتقي إلى مصاف النقاش المجتمعي الذي يتفادى الاستفزاز المتبادل (تنظيم تظاهرات للإطار الجماعي أو التهديد بالاعتداء بالعنف على المفطرين) ويمكن تبعا لذلك أن تعزز تبعا لذلك، قبول الاختلاف والسير الهادئ نحو الفصل بين السياسي وبين الأخلاقي والديني والمجتمعي، وكلها حلقات تتضافر نحو الديمقراطية الأعمق من وضع صندوق اقتراع في يوم معلوم. وعندها فقط ينتصر الدستور على المنشور.