جدل "المومس الفاضلة" مؤشر على ردّة ثقافية في مصر

منذ أن أعلنت الفنانة المصرية إلهام شاهين قبل أيام عن استعدادها العودة إلى خشبة المسرح مرة أخرى، وذلك بتجسيد دور البطولة في مسرحية “المومس الفاضلة” التي قدّمتها الفنانة المخضرمة سميحة أيوب في ستينات القرن الماضي والدنيا لم تقعد في مصر ليس احتفاء بعودة شاهين إلى المسرح بعد طول غياب ناهز العقدين، وإنما لأن عنوان المسرحية إباحي كما جاء على لسان نائبين في البرلمان، داعين إلى إيقاف المشروع وهو في المهد، وذلك قبل الاطلاع على محتوى العمل أصلا.
القاهرة- أظهر الحديث عن إعادة تقديم مسرحية “المومس الفاضلة” بالقاهرة وكأن هناك ردّة ثقافية يعيشها المجتمع المصري، بعدما واجه التصريح بالرغبة في إحياء العمل المسرحي الذي تمّ عرضه بالبلد في ستينات القرن الماضي هجوما عنيفا بسبب العنوان، دون النظر إلى المضمون أو الرجوع إلى النص الأدبي الذي تمّ اقتباسه من مسرحية وضعها الفرنسي جان بول سارتر، والمتاح على شبكة الإنترنت.
وقد وقع نائبان بالبرلمان المصري في الفخّ الثقافي عندما قدّما طلب إحاطة في مجلس النواب لمنع عرض العمل، باعتبار أن القائمين عليه يحاولون الترويج له باسم فاضح يتنافى مع القيم والتقاليد، وأكّدا رفضهما نقل اللفظ الخادش بين مسامع الأطفال، ما يتنافى مع ما أسموه بالرسالة السامية للفن المصري.

◄ المسرحية التي كتبها جان بول سارتر وتنتقد العنصرية ضدّ السود مستوحاة من قصة حقيقية تدور أحداثها في أميركا راعية الديمقراطية
ولم يلتفت النائبان إلى أن عنوان المسرحية ترجمة حرفية للنص الأصلي وتمّ تقديمها سابقا بعنوانين “المومس الفاضلة” أو “الساقطة الفاضلة”، وأن الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر استقبل مؤلفها جان بول سارتر وقت حضوره القاهرة لمُتابعة العرض الذي لعبت بطولته الفنانة سميحة أيوب، وهي من داعمي الفن المسرحي.
وتُعيد هذه الأزمة شبح أزمات أخرى تتعلّق بمصادر أعمال أدبية مثل “وليمة لأعشاب البحر” للأديب السوري حيدر حيدر، والتي أدّى نشرها في مصر إلى مشكلة في وزارة الثقافة، حيث نشط التيار السلفي في مهاجمة الرواية وصاحبها والوزارة، وحدثت مواقف من هذا النوع مع رواية نجيب محفوظ “أولاد حارتنا”، لكن في النهاية كان الانتصار للثقافة واضحا في الأخيرة.
الفرق بين التعليم والثقافة
تتناول مسرحية “المومس الفاضلة” الشخصية الإنسانية من ناحية الأخلاق، فالبغاء يقدّم فيها كنموذج لما يمكن أن يبتلى به المجتمع أو تمتهنه امرأة، لكن لا يعني أن كل من يمتهن تلك المهنة شيطان، ففي داخل الإنسان يوجد قدر من الخير والطيبة.
ويتّسق الهجوم على عمل فني لم ير النور مع انزواء الثقافة الجماهيرية مع أجيال تعتمد على القشور ومنصات التواصل الاجتماعي كمصدر سريع للمعلومات، وقطاع عريض لم يقرأ كتابا خارج محتويات المقرّرات المدرسية والجامعية.
وتكشف الأرقام المصرية عن انحدار الوعي الثقافي للجماهير، فالقرّاء لا يقضون أمام المواقع الإلكترونية أكثر من دقائق ويريدون المعلومة المباشرة دون حتى معرفة ملابساتها أو تفاصيلها ليؤسّسوا تصوّرات عقلية سريعة عنها دون وعي.
ويختلف الجيل الحالي المتعلم نظريا ومنخفض الثقافة عمليا عن جيل الستينات قليل التعليم ورفيع الثقافة والمتقبل للاختلاف ويقدّر الفن وحرية المرأة في الزي، فلم يعرف تحرشا رغم انتشار الفساتين القصيرة.
ربما كان انحدار الذائقة الثقافية دافعا وراء شكوى رسمية مستمرة من انخفاض الوعي بمفهومه الشامل، والتعامل معه كمعركة صعبة تكلفة الإصلاح فيها هائلة يدفعها المصلح الذي قد لا يكون محل رضا من الآخرين.
وأكّدت الفنانة سميحة أيوب أن إعادة تقديم المسرحية فكرة تم طرحها والتحمّس لها في لقاء جمعها مع زميلتها الفنانة إلهام شاهين خلال اجتماعهما في مهرجان شرم الشيخ للمسرح الشبابي أخيرا، مكتفية بتعليق واحد “يريدون العودة بنا إلى الكهوف مجدّدا”.
◄ خلال عام ونصف العام رفع محامون تخصّصوا في تعيين أنفسهم حرّاسا للقيم، واحدا وخمسين بلاغا لدى النيابة ضدّ أدباء وفنانين
وقال النقاد طارق الشناوي “لم تكن هناك أساسا مسرحية ستقدّم، مجرّد دردشة وصلت إلى الصحافة من خلال لقاء جمع بين سميحة أيوب وإلهام شاهين، وفى مثل هذه الأمور لا تكفي فقط رغبة الفنان، لكن أولا حماس المسؤول وموافقة لجان القراءة”.
ويعاني البعض من المثقفين المصريين من تداعيات تفشي دعاوى الحسبة التي يتمّ رفعها من قبل محامين تخصّصوا في تعيين أنفسهم حرّاسا للقيم، ورفعوا خلال عام ونصف العام فقط نحو واحد وخمسين بلاغا لدى النيابة ضدّ أدباء وسياسيين وفنانين.
ويمنح القانون المصري المُحتسب الحقّ في تقديم بلاغ للنيابة من منطلق الحقّ في متابعة أحوال الناس ومدى التزامهم بالشرع وكان مجالا واسعا للتيارات الدينية حتى عام 2013، قبل أن يصبح ميدانا واسعا لمجموعة من المحامين الذين استخدموه مطية من أجل الشهرة والظهور الإعلامي والدعاية المجانية.
وتظهر أزمة المسرحية الازدواجية في مجتمع يسجّل معدلات مشاهدة مرتفعة للمواقع الإباحية ومقاطع الأفلام القديمة الكاملة دون مقصّ الرقيب الأخلاقي، ويتّهم الفن باستمرار نشر الإباحية وينصّب نفسه راعيا للفضيلة ومدافعا عن القيم.
الثقافة النظيفة والقذرة
تنتقد المسرحية العنصرية ضدّ السود بقصة مستوحاة من أحداث حقيقية تدور عن امرأة غانية شهدت مقتل زنجي داخل قطار على يد رجل من البيض، ويتمّ إغراؤها بالأموال أولا ثم بالتهديد بالحبس عاما ونصف العام من أجل تغيير شهادتها باتهام صديقه الأسود الهارب باغتصابها وقتل زميله.
وأثارت المسرحية غضبا أميركيا عارما في الأربعينات لتعارضها مع الصورة الذهنية التي جرى تقديمها عن كونها راعية الديمقراطية، خاصة مع تصوير من يحاول ابتزاز الغانية، ابن سيناتور بارز، وحماية القاتل ابن شقيقة الأخير أيضا، ومدى النظرة الدونية للملوّنين التي تصل درجة مسحهم الهاتف حال ردّهم على المكالمات قبل توصيله إلى السيّد الأبيض.
شهــــادات

ويتعرّض الفن المصري إلى مشكلة في سيادة مصطلحي الثقافة النظيفة والقذرة، وصارت عبارة السينما النظيفة من العبارات المتداولة خلال ربع القرن الأخير الذي تمّ تقديمه كرد فعل على مساحات الجرأة في سينما المقاولات، ودافع عنها جيل عريض من الفنانين المنتمين للكوميديا، ليصبح تصنيف الفنانين بين نوعين أحدهما يحمل معيارا أخلاقيا في الحكم على السيناريو، والثاني موصوم بمخالفة تقاليد المجتمع.
وأوضح الناقد يسري عبدالغني لـ”العرب” أن المعترضين على مسرحية “المومس الفاضلة” لم يقرؤوا النص الأصلي أو المترجم والمتاح على الإنترنت، فالعمل يتعلّق بالتفرقة العنصرية ضدّ السود وبنوا تصوّراتهم على عنوان المسرحية فقط، والزعم بوقوف الفنانة إلهام شاهين وراء المشروع.
وتظهر الانتقادات الحادة من قبل البعض عدم الإلمام بطبيعة فن المسرح من الأساس كفن راق يُساعد الجمهور على فهم الثقافة والمجتمع، وحقّ المؤلف في إجراء تعديلات على النص الأصلي لسارتر، بعدما مرّ على عرضه الأول أكثر من نصف قرن، واختلاف المسرحية المكتوبة عن المعروضة والتخّلي عن جانب من الوصف الحسّي.
وتبنّت وزارة الثقافة المصرية مبادرة العام الماضي تحت عنوان “اضحك.. فكّر.. اعرف” لإعادة تقديم روائع المسرح العالمي في مسرحيات قصيرة للجمهور عبر موقع اليوتيوب، وانتقت مجموعة من أعمال الأديب الروسي أنطوان تشيخوف التي تحمل الكثير من الرسائل الإيجابية لتسهم بصورة فعّالة في نشر المُثل والقيم السامية.
وشدّد عبدالغني لـ”العرب” على أن الثقافة المصرية تتراجع للوراء حينما يتراجع المسؤولون عن دورهم، ففي الستينات كان المسرح أحد وسائل تشكيل الوعي بعرض مسرحي على خشبة المسرح القومي كل أسبوعين، مع مسرح “الجيب” الذي كان يعرض عملا عالميا كل أسبوع، ومنح الجمهور كتيبا صغيرا حول العرض القادم ليقرأ قبل أن يشاهد، وندوة مفتوحة مع الممثلين والمؤلف، وكل ذلك بمبلغ زهيد.
سهام الرجعية طالت مشروع إلهام شاهين وهو في المهد |
يتعيّن على المعترضين على المسرحية محاكمة سارتر إن استطاعوا |
وتغيّر مفهوم الأجيال الجديدة للمسرح ودوره السياسي والاجتماعي وجرى حصره في إسكتشات كوميدية ارتجالية يتمّ إلقاؤها على الجمهور لانتزاع الضحك، وتوظيف السخرية من العيوب الجسدية أو التهكّم من الأعمال الفنية القديمة وإعادة تقديمها بطريقة تسخر من بعض الممثلين مع سذاجة فاضحة في طريقة طروحاتها.
ويعبّر عن ذلك الفنان محمد صبحي الذي أكّد أن خمسة وتسعين في المئة من المعارضين لم يقرؤوا النص الأصلي لمسرحية “المومس الفاضلة” ولا يعرفون من هو الكاتب جان بول سارتر ولا أدب المسرح، ولم يشاهدوا المسرحية التي قدّمتها سميحة أيوب في الستينات، وكانت فترة نهضة مسرحية كبيرة منفتحة على المسرح
العالمي.
وأشار صبحي، والذي يوصف بأحد رواد فن المسرح بمصر، أن لفظة “مومس” التي تمّ الاعتراض عليها تم استخدامها في فيلم “بداية ونهاية” للكاتب نجيب محفوظ، واختياره جيّد جدا من مؤلف المسرحية التي يُدافع فيها عن قيمة أخلاقية عليا، وتساءل “هل كان البشر في الستينات قليلي الأدب؟ وهل لم يكن هناك مجلس نواب ولا جمهور؟”.
موقف رجعي غريب
لا يمكن عزل ما يوصف بالردّة الثقافية للجمهور المصري عن الواقع الاجتماعي، ففي الخمسينات سادت قيم العدالة وأزال التعليم الفواصل بين الطبقات، فازدهرت حركة الفن والثقافة خاصة المسرح، لكن في السبعينات والثمانينات مالت الدولة نحو الانفتاح وأعادت تشكيل طبقات فقيرة الثقافة اعتلت الهرم الاجتماعي مثل أصحاب العقارات وأصحاب مكاتب التصدير والاستيراد ومعها سينما المقاولات المعتمدة على الغرائز، قبل أن تأتي ثورة التقنية بوصول الهواتف الذكية إلى يد الجميع وتشكيلها ثقافة سريعة معتمدة على إعادة توزيع ما ينشره الآخرون والإيمان به حتى لو كان خاطئا.
◄ أزمة المسرحية تكمن في أنها تثير تساؤلات حول غياب التذوّق الفني بعدما أثارت إعادة تقديمها جدلا واسعا في مصر
وذكرت الناقدة المسرحية داليا همام لـ”العرب” أن إعادة إحياء الأعمال المسرحية العالمية لمؤلف كبير مثل سارتر أمر يجب تقديره وليس مهاجمته، فهو كاتب وفيلسوف وروائي له وجهة نظر وفلسفة، وتحاول فكّ شفرات الحياة في عمومها وتعاطي الإنسان مع ذاته والوجود، وتستهدف الترقي وإفادة المجتمع وإعمال العقل، وعلى ذلك فإن إعادة أعماله أمر يستحقّ الإشادة، وليس العكس.
ولفتت إلى أن المطالبة بمنع عمل استنادا على فهم مغلوط وأحكام مسبقة من مجرّد عنوان لمسرحية يؤكّد الحاجة إلى إعادة النظر في مستوى الوعي الذي قد يكون وصل إليه المصريون، فحتى الكوميديا يجب النظر إليها على أنها من أهم الفنون القادرة على إعمال العقل ولديها قدرة على التغيير بشرط التفرقة بين المضحك والمبتذل.
وفي مسرحيات مثل “أبوالعربي” لهاني رمزي كان أكثر المقاطع التي ضحك عليها الجمهور المتعلقة بالعجز الجنسي للرجال والزوجة المزواجة، وفي “بودي غارد” وهي آخر أعمال المسرحية للفنان عادل إمام تضمّن النص بعض الإيحاءات المتعلقة بالجنس، والاثنان لم تتضمّنا أيّ كلمة مثيرة في العنوان ولم يعترض عليهما أحد.
وأضافت همام أن عنوان العمل هو العتبة الأولى من عتبات التأويل، لكنه لا يعطي المعنى، ولا يمكن الاعتماد عليه، فالكثير من الكتب والروايات والمسرحيات والأفلام كان عنوانها خادعا وضحلة الفكرة والصياغة، كما لا يمكن اعتماد الأحكام الأخلاقية على عنوان مسرحية لكاتب فرنسي نشرت منذ حوالي خمسة وسبعين عاما، وبالتالي يتعيّن على هؤلاء محاكمة سارتر وماركيز ونيتشه وغيرهم.

الجيل الحالي المتعلم نظريا ومنخفض الثقافة عمليا يختلف عن جيل الستينات قليل التعليم ورفيع الثقافة والمتقبل للاختلاف