جازية شعيتير: الصراع السياسي يعرقل طريق العدالة الانتقالية في ليبيا

تتعالي أصوات الحقوقيين في ليبيا منادية بتطبيق العدالة الانتقالية رغم الفترة الانتقالية الصعبة والحرجة التي تمر بها البلاد منذ اندلاع انتفاضة فبراير. وتشير الحقوقية الليبية جازية شعيتير في حوار مع “العرب” إلى أن تطبيق العدالة الانتقالية وتقوية المجتمع المدني يسهمان في تعزيز جهود المصالحة الوطنية، التي يتطلع الليبيون والمجتمع الدولي إلى تحقيقها على أرض الواقع مع انعقاد المؤتمر الوطني الجامع. كما أن الوضع السياسي السائد في ليبيا معقد، حيث الاحتراب والمعارك واستشراء سطوة الميليشيات، وهي مظاهر تبرز الحاجة الملحة إلى إطلاق عملية سياسية تأخذ في الاعتبار ثوابت أساسية من قبيل العدالة الانتقالية التي من شانها أن ترأب الصدع الحاصل بين مكونات عديدة في ليبيا، ولا شك أن للمجتمع المدني الليبي دورا كبيرا منوطا بعهدته سواء في مسألة العدالة الانتقالية أو في غيرها من القضايا الحارقة بالبلاد، ذلك أن ما يتوفر للمجتمع المدني من إمكانيات وقدرات لا يتوفر عليه المجتمع السياسي الذي تنخره الانقسامات والحسابات السياسية. تتضافر معطيات دور المجتمع المدني مع ما ينادي به من ضرورة إطلاق فوري لمسار العدالة الانتقالية، وما يمكن للنساء الليبيات أن يقمن به في هذا الباب وغيره، لصنع إمكانية حقيقية تشكل مشهدا ليبيا مختلفا عن المشهد السائد، خاصة أن ليبيا على أبواب الملتقى الجامع الذي يتوقع انعقاده نهاية شهر مارس الجاري.
طرابلس - تبدي الأوساط السياسية والحقوقية في ليبيا تفاؤلا بعد الاتفاق الذي جرى بين القائد العام للجيش المشير خليفة حفتر ورئيس المجلس الرئاسي فايز السراج برعاية دولة الإمارات العربية المتحدة، والذي بموجبه ينهي المرحلة الانتقالية عبر انتخابات عامة في البلاد، مع ترقب الليبيين والمجتمع الدولي ما سيتمخض عنه الملتقى الليبي الجامع والمتوقع تنظيمه نهاية الشهر الحالي.
وفي حوار مع “العرب” تشير الحقوقية الليبية جازية شعيتير، عضو هيئة التدريس بكلية القانون في جامعة بنغازي ونائب مدير دراسات القانون والمجتمع، إلى أهمية تطبيق العدالة الانتقالية في ليبيا خلال هذه المرحلة. وترى أن جبر الضرر الفردي والجماعي لضحايا الصراع الدائر في البلد منذ اندلاع انتفاضة فبراير 2011 يخفف من حدة الانقسامات، وهو خطوة أولى في طريق بناء الدولة ومن شأنه أن يوحد صفوف الليبيين ويعزز جهود المصالحة الوطنية.
وتقول “ليبيا تحتاج إضافة إلى تسويات سياسية منصفة، إلى تنفيذ إجراءات العدالة الانتقالية دون إهمال أهمية المصالحات المجتمعية غير الرسمية لرتق النسيج الاجتماعي الذي تُهدد تماسكَه الاستقطاباتُ السياسية والأيديولوجية”.
ولا تخفي شعيتير لـ”العرب” أن الوضع الليبي صعب، وحتى التوافقات قد لا تصمد أمام تواصل الصراعات المسلحة والتوترات الأمنية.
ليبيا تحتاج إضافة إلى تسويات سياسية منصفة، إلى تنفيذ إجراءات العدالة الانتقالية دون إهمال أهمية المصالحات المجتمعية غير الرسمية لرتق النسيج الاجتماعي الذي تهدد تماسكه الاستقطابات السياسية والأيديولوجية
وتصف المشهد الليبي بعد مرور ثماني سنوات من الإطاحة بنظام معمر القذافي بالمعقد، وترى أنه من الصعب وصفه بالحرب الأهلية لأننا لسنا أمام حرب طوائف أو أقليات عرقية أو غير ذلك من الحروب التي تنشأ بين أبناء الوطن الواحد.
وتتابع موضحة “قرر بعض المواطنين عام 2011 تغيير النظام سلميا ثم تطور الأمر إلى المواجهة العسكرية مع النظام الذي ناصره شق أخر من المواطنين.. وفي العام 2014 أنتجت الأزمة السياسية في العاصمة تحالف فجر ليبيا وغيره من جماعات الإخوان.. أما في مصراته وسرت فركزت قوات البنيان المرصوص، التابعة لحكومة الوفاق الوطني الليبية، حربها ضد الإرهاب وكذلك الحال بالنسبة إلى معارك الكرامة في الشرق والجنوب التابعة للمشير خليفة حفتر”.
تطبيق العدالة الانتقالية
رغم الانقسامات الحادة حول الشرعية والسلطة والتي تحبط الليبيين تعتقد شعيتير أن الظرف موات لتطبيق العدالة الانتقالية. وبحسب شعيتير فإن العدالة الانتقالية نوع من العدالة المؤسسية تتبناها الدول في فترة ما بعد حكم شمولي ظالم أو ما بعد فترة حرب أهلية حيث تحدث انتهاكات ممنهجة وجسيمة لحقوق الإنسان، وهي تعتمد على ركائز معينة: معاقبة الجناة، جبر الضرر، تخليد الذاكرة، والإصلاح المؤسسي.
وتلفت إلى أن هناك خلطا بين مفهوم العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية التي يأمل الليبيون أن ينجح المؤتمر الوطني الجامع في تفعيلها على أرض الواقع.
والملتقى الوطني هو إحدى خطوات العمل التي طرحتها البعثة الأممية، وصادق عليها مجلس الأمن الدولي، لحل النزاع السياسي والأمني في ليبيا. وهذا النزاع أفرز جناحين للسلطة، أحدهما معترف به دوليا، وهو حكومة الوفاق الوطني، في العاصمة طرابلس (غرب)، والثاني هو “الحكومة المؤقتة”، المنبثقة عن مجلس النواب في طبرق، والمدعومة من قوات المشير خليفة حفتر في الشرق.
ولا يقتصر المشهد على هذه الثنائية، إذ إن أجزاء من ليبيا تقع تحت سيطرة مسلحين أو كتائب قبلية، ما يزيد من معاناة الليبيين.
تبين شعيتير أن العلاقة بين المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية ليست الترادف، فلكل منهما مبدأ مستقل بذاته؛ فالمصالحة الوطنية هدف العدالة الانتقالية. وحسب الحقوقية الليبية هذا لا يمنع في أحيان كثيرة أن تحدث المصالحة الوطنية من دون أن تفعل كل ركائز العدالة الانتقالية، إذن لكل مجتمع خصوصيته التي تفرض نفسها على خياراته في الانتقال للاستقرار السياسي والسلم الأهلي.
وأوضحت شعيتير أن قانون العدالة الانتقالية حسب المادة 81 في مسودة الدستور الصادرة عام 2017، يحتاج إلى مراجعة ومزيد من التوضيح. وتشرح بقولها “العدالة الانتقالية يجب أن ينظر إليها في الدستور الليبي من باب الانتهاكات التي وقعت على الأفراد والجماعات وبالتالي يهمنا قياس آلياتها على مستوى حقوق الأقليات المغبونة والأقاليم المهمشة”.
وتعتقد أن مسألة العدالة الانتقالية في ليبيا معقدة لأسباب كثيرة وليس فقط بسبب سيادة الفكر القبلي في المجتمع الليبي. وترى أنه بوسع الفكر القبلي إذا وظف بطريقة جيدة وإيجابية أن يساعد على تطبيق ركيزتين هامتين من ركائز العدالة الانتقالية وهما: العفو والتعويض. فيما تحذر من أن الفكر الجهوي خطر على كيان الدولة وعلى كل أنواع العدالة.
تبعا لذلك لا يجوز أن تكون العدالة الانتقالية انتقائية على أفراد منطقة دون أخرى أو على أفراد قبائل بعينها دون غيرها. بيد أن أهم معرقلات العدالة الانتقالية حسب شعيتير هو الصراع السياسي الذي يزيد من التداخل بين مراكز الجاني والمجني عليه ويزيد من حالات الانتهاك الممنهج والجسيم لحقوق الإنسان.
وتشير إلى أن النسيج الاجتماعي للدولة الليبية أصابه الخلل نتيجة عدة عوامل أهمها الاستقطاب السياسي على خلفية التجاذب الذي ظهر منذ عام 2011، مما أظهر حالة الانقسامات المجتمعية. وأردفت “الحروب تظهر أسوأ ما في المجتمع، فما بالك إذا كانت حروبا داخلية بين أبناء الوطن الواحد”.
ولمواجهة تداعيات الفترة الانتقالية الحرجة على المجتمع الليبي تعتقد الحقوقية الليبية أن “الشخصية الليبية تحتاج إلى تأهيل نفسي واجتماعي وإلى إحياء المنظومة الأخلاقية والقيمية الحميدة التي تساعد على تماسك أفراد الشعب الليبي”.
حقوق المرأة الليبية
حول محتوى الحقوق النسوية في الدستور الليبي أكدت شعيتير أن باب “الحقوق والحريات” في الدستور الليبي لم يفرق بين الرجل والمرأة بل العكس من ذلك أقر المساواة بين الجنسين، كما أنه خصص مادة مستقلة لتضمين حماية دستورية لحقوق المرأة بصفة خاصة، وهي المادة التاسعة والأربعون.
وتلزم هذه المادة الدولة بدعم ورعاية المرأة وسنّ القوانين التي تكفل حمايتها ورفع مكانتها في المجتمع والقضاء على الثقافة السلبية والعادات الاجتماعية التي تنتقص من كرامتها وحظر التمييز ضدها وضمان حقها في التمثيل في الانتخابات العامة، وإتاحة الفرص أمامها في المجالات كافة، واتخاذ التدابير اللازمة لعدم المساس بحقوقها المكتسبة ودعمها.
وبخصوص العنف المستشري ضد النساء الذي يطرح مشكلة واسعة في المجتمع الليبي، سواء العنف العائلي، أو المرتبط بالنزاع السياسي، تؤكد شعيتير على ضرورة أن يتضمن الدستور حظرا صريحا لجميع أشكال العنف وإلزام السلطة التشريعية بإصدار تشريع خاص يجرّم العنف ضد النساء.
وتشير إلى “أن ما ينقص المرأة الليبية هو الثقافة المجتمعية المناصرة لحقوق المرأة في التمكين السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. كما تجب توعية النساء الليبيات بحقوقهن وواجباتهن. وتلفت إلى أهمية دور المجلس الأعلى لشؤون المرأة وهو هيئة مستقلة تراقب السلطة التشريعية والتنفيذية على حد السواء”. وحسب شعيتير فمن نقاط ضعف مسودة الدستور الليبي الصادرة عام 2017 هو ترك حق منح الجنسية لأبناء المرأة الليبية للقانون كي ينظمه. وتعتقد أنه كان من اليسير جدا أن نقتدي بتشريعات بعض الدول العربية من حيث التصريح بأن كل من ولد لأب أو أم ليبية يعدّ ليبيا.
وتقول “هذا منطقي وطبيعي خاصة في دولة عدد أفراد شعبها قليل ورقعتها الجغرافية واسعة ومواردها الطبيعية هائلة. ولا يبقى بعد ذلك إلا تنظيم عملية زواج الليبيين من الأجانب لضمان اختيار الأفضل لهم ولدولتهم”.
ودعت الحقوقية الليبية جازية شعيتير في ختام حوارها مع “العرب” إلى “ضرورة تقوية المجتمع المدني في ليبيا حتى يشكل وسيلة ضغط على السلطة التشريعية ويكون الصوت المحايد الذي ينقل جميع هموم الليبيين”.
وختمت بقولها “إذا تمكن المجتمع المدني من التعبير عن صوت الشعب الذي هو مصدر السلطات ورقيب المنتخبين، ونال ثقة شعبية واسعة، يمكن بذلك أن يدافع عن مطالب الشعب وأن يكون أداة رقابية غير رسمية على السلطة التشريعية وبإمكانه أن يقدم مشاريع قوانين غاية في الأهمية تخدم مصلحة المجتمع الليبي”.