ثورة على التقشف الاقتصادي في أوروبا
في الأسبوعين الماضيين، عادت موجة التظاهرات الشعبية في أوروبا ضد سياسة التقشف الاقتصادي التي تنتهجها معظم الدول الأوروبية منذ عام 2008. إذ اجتاحت شوارع أسبانيا والبرتغال واليونان وإيطاليا وبلجيكا حشود غاضبة من الفئات الأكثر حرمانا، وقد وجدت نفسها ضحية لأزمة اقتصادية- مالية خانقة.
فاقمت الأزمة المالية العالمية لعام 2008 من آلام ومعاناة الطبقات الشعبية في أوروبا، لكنها فتحت باب المعاناة المضنية للطبقة الوسطى أيضا. فمع التطور التكنولوجي الهائل، واتساع قاعدة الطبقة الوسطى في المراكز الرأسمالية، ضربت الأزمة تلك الفئات بصورة مباشرة ومؤثرة.
وهذا هو الحال مع الأزمات الاقتصادية بشكل عام، حيث يكون تسريح العمال على أشده بسبب إفلاس الشركات، أو بسبب سعيها إلى تخفيض التكاليف، فتقرر التخلص مما سماه رئيس شركة سيمنز بـ”طبقة الوحل”، ويقصد فئة العمال في المستويات الوسطى في الشركة، الذين يتحولون بفعل الأزمة إلى أوحال متراكمة تثقل كاهلها.
ولكي يواصـل الخـط العـام للـربح صعـوده في ظل الأزمة، يقوم المدراء بإجراء تعديلات هيكلية تشمل إغلاق عدد من الفروع، أو نقل فروع من بعض الدول ذات المعدل المرتفع للأجور، إلى دول أخرى تمتاز بالأجور الهزيلة، وبتقديم تسهيلات استثمارية وتخفيضات كبيرة على الضرائـب، وهو ما يـؤدي إلى تسريـح العمـال في مواقع الإنتاج. كما تشمل التعديلات التخلي عن “طبقة الوحل” من العمال الذين يعملون بمستويات إدارية متوسطة، ممن يضطلعون بمهام إدارية روتينية ضعيفة الصلة بمواقع الإنتاج. وعندما تبدأ الأزمة الاقتصادية بالتهام الوظائف، فإنها تفتك أولا بوظائف هؤلاء العمال تحديدا، ومن ثم تشبع نهمها بوظائف عمال الإنتاج.
وتكون النتيجة خسارة الملايين لفرص عملهم، وتحولهم من طبقة متوسطة ذات ميل عال للاستهلاك، إلى فقراء لا قدرة لهم على سد رمق الحياة.
يضاف إلى ذلك، محاولة “الدولة”، حيث اندلعت الأزمات الاقتصادية، التخفيف من دورها الاقتصادي والاجتماعي، من خلال تقليص الخدمات العامة والأجور والإنفاق على التعليم والصحة والدعم الاجتماعي. لتفرض الدول الأوروبية المأزومة “سياسة التقشف” رغما عن إرادة الأغلبية الشعبية، حيث لا تجد مفرا من تلك السياسة لتجنب الإفلاس.
الأزمات المتلاحقة التي تعصف بدول رأسمالية كانت إلى زمن قريب دولا «مستقرة»، وكانت مثالا لازدهار الرأسمالية ولـ”حكمة” اقتصاد السوق، فتحت الباب أمام تساؤلات كبيرة عن احتمالات التغيير في ظل تفاقم التوترات الاجتماعية في الدول غير مكتملة النمو كاليونان والبرتغال وأسبانيا، لكن أيضا في بلدان رأسمالية راسخة مثل اليابـان وفرنسـا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية. إذ تشير الأرقام إلى زيادة حدة التباين بين الأغنياء والفقراء في دول المركز الرأسمالي في السنوات الأخيرة. فحتى في الدول التي تمتع مواطنوها دوما برعاية اجتماعية لافتة مثل ألمانيا، تشير التقارير إلى أن درجة العدالة الاجتماعية وتوزيع الدخل هناك كانا مقبولين إلى حد كبير حتى نهاية القرن العشرين، لكن المشكلة تفاقمت مع بداية عام 2000 وعلى امتداد السنوات اللاحقة بشكل مثير للفزع. فبينما كان عدد أبناء الطبقة الوسطى في ألمانيا عام 2000 نحو 49 مليون مواطن، تراجع بعد عقد من الزمن فقط بمقدار خمسة ملايين مواطن، أي تراجع بأكثر من عشرة بالمئة.
كما ارتفع عدد العاطلين عن العمل في الاتحاد الأوروبي من 17 مليونا في 2007 إلى 27 مليونا في 2014. ويصل عدد الشباب العاطلين عن العمل في البلدان الأكثر تضررا من التقشف إلى 50 في المئة. بينما يوجد 121 مليون أوروبي تحت خط الفقر.
بعد أزمة عام 2008، لا يمكن تجاهل تفاقم الغضب والنقمة الشعبية على النظام الاقتصادي الرأسمالي بصفته اقتصادا غير عادل، يركز الثروة باستمرار لدى أعداد متناقصة من حيتان المال.
وبينما تتسبب هذه الحيتان في الأزمات الاقتصادية المتتالية بسبب الفقاعات المالية الضخمة التي يصنعونها، وبسبب نهمهم الشديد نحو زيادة أرباحهم، تجد الطبقات الشعبية والفئات الوسطى نفسها ضحية أزمات لم يكن لها أي دور في التسبب بها.
الأمر الذي أضعف الثقة باقتصاد السوق الرأسمالي، وطرح العديد من الأسئلة حول النظام المالي العالمي. بل جعل نسبة كبيرة من الاقتصاديين الأكاديميين تقر بضرورة إجراء تعديل جوهري في سير هذا النظام، للتخفيف من حدة الأزمات المتكررة التي تعصف بالفئات الأكثر انكشافا، والتي لا يبدو أنها ستشهد نهاية قريبة أو بعيدة.
كاتب فلسطيني- سوري