ثلاث جبهات ساخنة تحاصر مصر

هذه أول مرة في التاريخ الحديث والمعاصر تواجه مصر ثلاث جبهات عسكرية ساخنة في وقت واحد على حدودها الغربية والجنوبية والشرقية، ولم يُظهر جيشها قلقا كبيرا في التعامل معها، فهذا السيناريو ليس بغريب على تفكيره، ووصل إلى احتمال حدوثه منذ التفكير في تحديث معادلته وتنويع مصادر التسلح على نطاق واسع، وتطوير العقيدة العسكرية بما يتواءم مع التحولات الجارية في المنطقة.
نجت مصر في التعاطي بحكمة مع الجبهة الليبية الغربية من خلال إحباط المخططات الرامية إلى تصدير أزمة لها عبر تعمد تسرب الكثير من العناصر المتطرفة ونقل جزء من المعركة إلى أراضيها وتسخين الأرض تحت أقدام جيشها، وسدت المنافذ والثغرات الأمنية التي يمكن أن يتسلل منها هؤلاء أو غيرهم إليها.
لم تنجر وراء إغراءات عديدة لتدخلها العسكري وكانت قيادتها السياسية على يقين من المخاطر التي تنطوي عليها هذه الخطوة في المستقبل، فقد يبدو التدخل سهلا ومغريا، إلا أن الخروج سوف يكون صعبا ومدمرا، وكان الخط الأحمر الشهير الذي رسمه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي منذ حوالي ثلاث سنوات كافيا لردع من فكروا في توسيع وجودهم في شرق ليبيا والاقتراب من الحدود المصرية.
يبدو كابوس غزة أخطر من الكوابيس الأخرى في ليبيا والسودان، لأن ما يجري في القطاع على مرمى حجر من الحدود المصرية، وكثير من مفاتيحه في أيدي أطراف إقليمية ودولية متباينة
تكرر المشهد في السودان منتصف أبريل الماضي عندما اندلعت الحرب بين قوات الجيش والدعم السريع، وظهرت مصر منحازة إلى جانب المؤسسة العسكرية النظامية في السودان ويقودها الفريق أول عبدالفتاح البرهان، وتردد أنه طلب أسلحة وطائرات ثم ظهرت تلميحات من قبل سودانيين حول إمكانية أن تتدخل مصر عسكريا.
أقصت التطورات اللاحقة هذا الاتجاه، فعواقبه البعيدة سوف تكون وخيمة على الدولة المصرية التي أمّن جيشها الحدود الجنوبية مبكرا، وقطع الطريق على غالبية محاولات التسلل عبرها، وخفّض مستوى الهواجس الأمنية القادمة من الجبهة السودانية.
بدت القناعات المصرية صارمة في مسألة التدخل العسكري خارج حدودها، وعلى ثقة أن أي مقاربة تحوي تدخلا في ليبيا أو السودان أو حتى توجيه ضربة عسكرية إلى سد النهضة الإثيوبي، تعني في التفكير الرسمي جرّ أقدام الجيش إلى منزلق يصعب التخلص منه، ما جعل القيادة السياسية في القاهرة تنخرط في إعادة هندسة الأوضاع الأمنية والعسكرية الداخلية، باعتبارها الوسيلة التي تمنع تغول أي قوة خارجية عليها.
كتبت في جريدة “العرب” حول عدم التدخل العسكري المصري مباشرة وبطريقة منظمة في الأزمة الليبية وسط رواج رواية أفادت بقرب حدوث هذا الخيار، وسألني أحد المذيعين في قناة العربية – الحدث على الهواء مباشرة عما كتبته بهذا الشأن بعد تلويح الرئيس السيسي بالتدخل ورسمه الخط الأحمر.
وكانت إجابتي وقتها أن ما كتبته بعنوان “لن تتدخل مصر عسكريا في ليبيا” لا يزال صالحا، لأن حديث السيسي لا يعني التدخل الفوري، ويمكن فهمه أيضا على أنه حديث ردع. مضت الشهور والسنوات ولم تتدخل مصر عسكريا في ليبيا أو السودان.
قد يرى غيورون على مصر، ولا أقول طامعين وطامحين لتوريطها، أنها أخطأت في عدم التدخل عسكريا في ليبيا أو السودان أو ضرب سد النهضة الإثيوبي، حيث واتتها الفرصة لتأكيد أنها قوة إقليمية كبرى وأن التقديرات الإستراتيجية لدى قيادتها غير دقيقة، إلا أن ما يجري من توترات في المنطقة ويؤثر على مصر حتما أثبت أن عدم التدخل العسكري في الأزمات السابقة كان صوابا لو حدث واندلعت حرب غزة.
جاءت الحرب الإسرائيلية على غزة بعد أن تلقى الجيش الإسرائيلي ضربة موجعة ماديا ومعنويا على يد المقاومة الفلسطينية، هزت صورته التي رسمها في خيال كثيرين، وبدأ سيناريو توطين سكان غزة في سيناء يطفو على السطح، وعلى القاهرة أن تواجه كابوسا جديدا على الحدود الشرقية للدولة المصرية، في وقت لم تنته فيه كوابيس كل من ليبيا والسودان، فضلا عن سد النهضة.
كان يمكن أن تتسبب هذه الجبهات الساخنة في تدمير بعض من هياكل الدولة لو لم يكن جيشها جاهزا للدفاع عنها أو غير متوقع حدوثها أو مشتتا بين أزمات وحروب عدة. الآن عرف المصريون لماذا تم تطوير أسلحة الجيش ومعداته والإنفاق على ذلك بسخاء؟ ولماذا رفض الجيش الانسياق خلف التدخل عسكريا في أزمات إقليمية؟ ولماذا صمدت القيادة السياسية أمام إغراءات واستفزازات خارجية عديدة؟
القاهرة عليها التصرف بمزيد من الحسم، فإذا كان الميل نحو التصرف بنوع من الليونة كدليل على الحكمة لعبور أزمتي ليبيا والسودان، فإن الخشونة قد تصبح خيارا لا بديل عنه في التعامل مع تداعيات العدوان الإسرائيلي على غزة
يبدو كابوس غزة أخطر من الكوابيس الأخرى في ليبيا والسودان، لأن ما يجري في القطاع على مرمى حجر من الحدود المصرية، وكثير من مفاتيحه في أيدي أطراف إقليمية ودولية متباينة، وفيه وجه إنساني يصعب التغافل عنه، قد لا تستطيع القاهرة مقاومته بالطرق العسكرية التقليدية.
من هنا يأتي المأزق، لأن الحرب تطرق بقوة الأبواب المصرية، والأجواء التي وفرت الفرصة لتدخل الجيش أو عدم تدخله كانت في شق كبير منها اختيارية، بينما الوضع في غزة يمكن أن يصبح إجباريا ولا تملك القاهرة رفاهية المفاضلة بين بديلين. ومكمن الصعوبة في حالة غزة أن الخيارين (التدخل وعدم التدخل) في غاية القسوة على مصر، والتي قد تجد نفسها في خضم أزمة ممتدة.
جاءت الاستعدادات المصرية لإعادة ترتيب جغرافيا سيناء الأمنية والاجتماعية والاقتصادية في السنوات الماضية لتثبت أن الجيش لم يكن غائبا عما يدبر لسكان غزة، وأن سيناريو الوطن البديل في سيناء الذي تردد منذ عقدين، في عهدي الرئيسين السابقين حسني مبارك والإخواني محمد مرسي، كان أحد أهم المحركات العسكرية لتغيير الجغرافيا في سيناء.
إذا تخيلنا أن الحرب الضارية التي يشنها الجيش الإسرائيلي على القطاع وقعت في غياب تجهيز المسرح المصري في سيناء، لكانت هذه الجبهة أشد خطورة مما يتردد الآن، فخيار النزوح الجماعي من غزة لا يزال مطروحا، وفي ظل زيادة عمليات التقتيل لسكانها والتدمير لمبانيها لن تكون إسرائيل أو غيرها بحاجة إلى حبك مؤامرة، فالأوضاع العامة ستكون مهيأة لدفع مواطني غزة تلقائيا نحو سيناء.
ما قامت به مصر هو تخفيف لشبح مواجهتها هذه النتيجة من خلال امتلاك أدوات للصد والرد والرفض، لأن الأمور قد تفلت من عقالها وتتطور بما يفضي إلى حرب إقليمية وربما دولية، وهو سيناريو لم يكن غائبا عن عقل الجيش المصري عندما امتنع عن الزج بقواته في ليبيا والسودان، وجرى تفضيل التعامل معهما بأدوات خلت من المواجهات العسكرية المباشرة.
تؤكد مواجهة مصر لثلاث بؤر ساخنة في وقت واحد، كل منها يحمل أهمية حيوية متفاوتة، أن القاهرة عليها التصرف بمزيد من الحسم، فإذا كان الميل نحو التصرف بنوع من الليونة كدليل على الحكمة لعبور أزمتي ليبيا والسودان، فإن الخشونة قد تصبح خيارا لا بديل عنه في التعامل مع تداعيات العدوان الإسرائيلي على غزة.