ثقافة البروباغندا

الجمعة 2016/08/12

في السّنوات العشر الماضية، ومع ارتفاع سعر البترول، تحوّلت الجزائر إلى ما يشبه «ورشة ثقافية» مفتوحة، إلى درجة كاد يعتقد فيها الملاحظ الأجنبي أن البلاد تعيش «صحوة» ثقافية، وذلك باحتضانها عدداً من التّظاهرات الكبرى: عاصمة للثّقافة العربية (2007 و2015)، عاصمة للثّقافة الإسلامية (2011)، المهرجان الثّقافي الأفريقي (2009)، من دون الحديث عن المهرجانات الدّولية الصّغرى والمتوسطة، سنوياً، والمئات من الملتقيات والمؤتمرات والنّدوات، التي كانت تقتنص ميزانياتها كاملة من الخزينة العمومية، لكن منذ قرابة العام، تراجع سعر براميل البترول إلى أسوأ مستوياته، ومعه اندثرت تلك النّشاطات التي لم تخلّف أثراً، تراجعت ميزانية الثّقافة إلى أقل من النّصف، ولم يبذل وزير الثّقافة جهداً في الدّفاع عن ميزانية القطاع أمام الحكومة أو أمام البرلمان، بل راح يواصل السّياسة نفسها، مركّزاً العمل على «ترويج صورة ناصعة» له في الخارج، صورة مهترئة ومتذبذبة في الحقيقة، وممارساً «التّقشف» على المناطق الحيوية من القطاع ذاته، والأكثر أهمية: خفض دعم نشر الكتاب، خفض دعم السّينما، خفض دعم المسرح.. هكذا، صارت الجزائر واجهة ثقافية، تعاني خواءً من الدّاخل: دور سينما مغلقة، مكتبات في تقلّص.

ولكي تسير الأمور بسهولة وسلاسة، كان لا بدّ من توظيف «مثقفين» في عملية صناعة «الصّورة الخادعة»، وصار المشرفون على نشاطات وزارة الثّقافة صحافيين مسؤولين على الصّفحات الثّقافية، إضافة إلى كتّاب ومسرحيين، وبات شبه مستحيل أن يمرّ رأي ناقد للوزير في الصّحف اليومية، ولا مجرد وجهة نظر لتنبيه الرّأي العامّ لما يحصل، كما حاولت الوزارة استقطاب أسماء عالمية لتلميع مناوراتها وتوريطهم في مشاريع ثقافية مشتركة (آرنولد شوارزينغر، مايك تايسون) وأسماء أخرى فهمت المغزى من اللعبة ورفضت المجيء (الفنانة فيروز أو الفيلسوف ريجيس دوبري).

هذا المنطق ليس جديداً، فهو امتداد طبيعي لمنطق رئيس الجمهورية نفسه، الذي منذ وصوله للحكم عام 1999، راهن على تلميع صورته على حساب خدمة القضايا الحسّاسة التي تهمّ المواطن بالدرجة الأولى، في ظلّ هذا الوضع المتناقض مع نفسه، قد يتساءل أحد ما: ما أهمية تلميع الصّورة في وسط ثقافة معطوبة؟ فغالبية النّشاطات، التي تنظم سنوياً في الجزائر، لا تستهدف المواطن العادي إلا في حالات نادرة: الملتقيات والندوات تدور في قاعات شبه فارغة، العروض السينمائية والمسرحية كذلك، فهل «تزييف» الواقع سيكون بديلاً لإشباع نرجسية القائمين على الثّقافة الرّسمية؟

هذا الواقع المشوّه يسير مع خطّة «بروباغندا سياسية»، فالكثير من الفعاليات الثّقافية تُفتتح وتُختتم تحت صور رئيس الجمهورية والتّصفيق له، وكلماته تتسلّل، باستمرار، في خطابات المسؤولين، صارت البروباغندا الموّجهة أهمّ من أخلاقيات العمل الثّقافي، والمديح المبطّن للرئيس يتجاوز قناعات المثقفين، هذه البروباغندا غير المبرّرة تسيء للثقافة، مثلما تسيء الدكتاتوريات للديمقراطية، وتعيد إحياء ماضي الحزب الواحد الذي حكم البلد طويلاً، كما لو أن شيئاً لم يتغيّر في الجزائر، وأن تضحيات الآلاف من أجل مزيد من الحريات، في انتفاضة أكتوبر 1988 أو في الرّبيع الأسود 2001، لم تزد الثقافة سوى تموقعا في حضن السّياسة، كما لو أننا بصدد إعادة إنتاج «الخسارات الماضية»، ولكن بتقنيات جديدة، بالاستعانة بأحدث التكنولوجيات، لملء الفراغ وإيهام المتلقّي بأن الأمور تسير على ما يرام، وهي على العكس من ذلك تماماً.

قبل أربع سنوات، تشكّلت نواة مجموعة ثقافية مستقلة، في الجزائر، بنية التّفكير في إخراج الثّقافة من عباءة «الرّسميات» التي أنهكتها، وإعادة توجيهها نحو الشّارع، نحو الجزائري العادي، الذي يجد نفسه غريباً عن الثقافة التي تعرضها عليه الدّولة، حرّرت هذه المجموعة، التي كانت تضمّ كتّاباً وناشطين، وثيقة عمل، وكان من أهمّ ما جاء فيها فتح المجال للقطاع الخاص للاستثمار في الثّقافة، وأن تلتزم الوزارة بدورها الطبيعي في التّوجيه والمراقبة، وليس في فرض ما يناسبها ومنع ما لا يناسبها، لكن، للأسف، كل جهود التّفكير للخروج من ثقافة التّزييف أو ثقافة البروباغندا لم تجد من ينتبه إليها، مرّت سنوات، وهاهي وزارة الثّقافة في الجزائر تكرّر نفسها، تتغاضى عن دعم المبادرات الحرّة، وتواصل خنق صوت كلّ من يفكر خارج سياقاتها. والشّيء المؤسف أن هذا الواقع سيستمر باستمرار النّظام السياسي ذاته.

كاتب من الجزائر

14