تونس 2022: من ينتصر قيس سعيّد أم معارضوه

أيام قليلة تفصل تونس عن العام الجديد بما يمثله من تحديات كبرى ينتظر أن تواجه الدولة والمجتمع، ومن تجاذبات مصيرية بين الفاعلين السياسيين والاجتماعيين المنقسمين حول المشروع السياسي للرئيس قيس سعيّد، في ظل أوضاع مالية واقتصادية صعبة ستكون جسرا نحو أوضاع أصعب يرجح المحللون أن تعرفها البلاد مع حلول آجال الإيفاء بالتزامات مهمة تتعلق أساسا بالقروض مستوجبة الدفع.
مع بداية يناير القادم ستشهد تونس إطلاق استشارة شعبية مفتوحة في جميع مناطق البلاد بالاعتماد على المنصات الإلكترونية، وذلك لطرح مقترحات التونسيين للمرحلة القادمة وفق خارطة الطريق المعلنة من قبل الرئيس قيس سعيّد، والتي أثير الكثير من الجدل حول أهدافها وآليات تنفيذها والإمكانيات التقنية المتاحة في سياق عام يعاني من حالة قطيعة شعبية مع الواقع السياسي بصورة عامة، وليس فقط مع الأحزاب السياسية كما يعتقد البعض لاسيما من مناصري الرئيس سعيّد.
ومن المنتظر أن تتمحور الاستشارة الشعبية حول الإصلاحات الدستورية وشكل النظام السياسي الذي ينادي الفاعلون السياسيون بإعادته إلى الطابع الرئاسي كما كان عليه قبل 2011 في مواجهة الفشل الذريع الذي مني به النظام البرلماني المعدّل خلال السنوات الماضية والذي تجسّد في تشتت السلطات التنفيذية وقدرات الدولة على فرض سلطانها على المجتمع، وغياب التنسيق بين رئيسي الدولة والحكومة في أغلب الأحيان، ووضع أغلب السلطات التنفيذية وآلياتها بيد رئيس حكومة غير منتخب مقابل تهميش دور رئيس الدولة رغم أنه منتخب على دورتين.
ويراهن الرئيس التونسي على مشاركة شعبية واسعة لاسيما من قبل الفئات الشبابية في الاستشارة التي ستتواصل لمدة 75 يوما تقريبا، والتي ستكون بديلا عن الحوار الوطني الذي كان دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل منذ ديسمبر من العام الماضي وتبناه عدد من الأحزاب والقوى السياسية والمنظمات الوطنية، وكانت حركة النهضة في مقدمة رافضيه وهي على رأس البرلمان وفي مقدمة الحزام الحكومي، قبل أن تعود إلى المناداة به بعد الإطاحة بها من مركز القرار بتعليق نشاط وصلاحيات مجلس نواب الشعب وحل حكومة هشام المشيشي في إطار التدابير الاستثنائية المتخذة في الخامس والعشرين من يوليو الماضي.
وينتظر أن تتواصل الاستشارة الشعبية المقترحة من قبل الرئيس سعيد حتى العشرين من مارس العام القادم الذي يصادف الذكرى الثالثة والستين لعيد الاستقلال، ومن هناك سيتم تجميع المقترحات الشعبية ودراستها على الأصعدة المحلية والجهوية والوطنية انطلاقا من المعتمديات وفق التقسيم الإداري الذي يقسمّ البلاد إلى 24 ولاية (محافظة) ومنها إلى 264 معتمدية، ثم توحيد التوجهات العامة للمقترحات ضمن بنود تتعلق إما بإدخال تعديلات دستورية أو كتابة دستور جديد يكون منطلقا لتدشين عهد الجمهورية الثالثة، وكذلك بطبيعة النظام السياسي الذي سيتم اعتماده لاحقا والذي سيفرض التعديلات المنتظر إدخالها على القانون الانتخابي.
المرحلة القادمة في تونس لن تخلو من معركة كسر عظام لاسيما بين مشروع الرئيس قيس سعيّد ومعارضيه
وينتظر أن يتم الانتهاء في شهر يونيو القادم من وضع نتائج الاستشارة على ذمة مؤسسات الدولة قبل عرضها على استفتاء شعبي عام ينتظم في الخامس والعشرين من يوليو 2022 الذي يصادف بدوره الذكرى الخامسة والستين لإعلان قيام النظام الجمهوري، والذكرى الأولى للتدابير الاستثنائية التي اتخذها الرئيس سعيّد والتي دشّن من خلالها حركته التصحيحية.
ووفقا لما ستفرزه نتائج الاستفتاء، تتجه البلاد إلى تنظيم انتخابات تشريعية في السابع عشر من ديسمبر 2022 بالتزامن مع إحياء ذكرى اندلاع الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بنظام الراحل زين العابدين بن علي التي تحولت بقرار من الرئيس سعيّد إلى عيد سنوي للثورة في تكريس لما وصفها بلحظة الانفجار الثوري ويعتبرها آخرون تكريسا لرمزية إضرام البوعزيزي للنار في جسده، بدل التاريخ المعتمد سابقا وهو الرابع عشر من يناير الذي كان يرمز إلى حادثة مغادرة الرئيس الأسبق للبلاد، ووصفه سعيدّ بأنه كان تاريخا لإجهاض الثورة.
ويبدو واضحا أن الرئيس سعيّد إنما يتبنى بذلك فكرة الانتصار للجموع في تشكل حراكها العفوي من خارج أي تنظيم سياسي أو عقائدي قد يقودها إلى أهدافها، ويرفض نتائج دور النخب في تأطير ذلك الحراك أو في تحويله إلى غنيمة يتم تقاسمها بين من يعتبرهم أعداء لتطلعات الجماهير، كما حدث بعد 2011 ووصولا إلى الخامس والعشرين من يوليو الماضي الذي يمثّل بالنسبة إلى مشروع الرئيس سعيّد نهاية صراع الأحزاب والنخب وبداية مرحلة الجموع التي ستقرر مصيرها عبر الاستشارة الشعبية، وستحكم نفسها بنفسها من خلال الديمقراطية القاعدية المباشرة.
واضطر الرئيس سعيّد إلى الإعلان عن خارطة طريق للمرحلة القادمة بعد أن كان قال إن على من يبحث عن خارطة طريق أن يذهب إلى كتب الجغرافيا، وينتظر أن يكون العام القادم مساحة لاختبار الأسس العملية لمشروعه الذي ينعته أعداؤه بالشعبوي، ويرون فيه انقلابا على المسار الدستوري والديمقراطي، واستنساخا لمشروع سطلة الشعب الذي كان الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي قد اعتمده في بلاده منذ مارس 1977 انطلاقا من مجمل المقولات الواردة في الكتاب الأخضر.

لكن بالمقابل يواجه سعيّد معارضة شرسة من قبل الأغلبية الساحقة من الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية، حتى الأحزاب التي كانت أعلنت دعمها لتدابير الخامس والعشرين من يوليو عادت لتؤكد رفضها لما تصفه برغبة الرئيس في الانفراد بالحكم، ولتعمده تهميش القوى السياسية الأساسية في البلاد، حيث أنه لا يبدي فقط رفضا لتيار الإسلام السياسي كما اعتقد البعض، وإنما هو يبدي عداء للقوميين واليساريين وللدستوريين من ممثلي تيار الدولة الوطنية. بل وقد يبدو في بعض الأحيان أكثر ميلا إلى الإخوان من الآخرين.
ودخل الرئيس سعيد في مواجهة صامتة مع الاتحاد العام التونسي للشغل سرعان ما تحولت إلى مواجهة مفتوحة لخصها البعض في الحديث عن إمكانية الاتجاه إلى معركة كسر العظام، لاسيما خلال الفترة القادمة، مع بوادر ارتفاع منسوب الاحتقان الشعبي بسبب تدهور الوضع الاقتصادي، والارتفاع المشط للأسعار، واتساع دائرة البطالة، وحاجة الدولة إلى حلول عاجلة وذات فاعلية قصوى للأزمة المالية المستفحلة.
إلى ذلك فإن القوى التي تطلق على نفسها صفة الضدية لما تعتبره انقلابا يقوده الرئيس سعيّد تتجه نحو الرفع من نسق تحركاتها الاحتجاجية بمشاركة قوى متعددة المرجعيات السياسية والعقائدية كما كان التحالف القائم ضد الرئيس الأسبق بن علي، والذي كان يتسرّب بمواقفه ورسائله إلى مراكز القرار في الخارج من خلال السفارات ووسائل الإعلام ومنظمات المجتمع الدولي، كما يحظى بتعاطف أساسه استغلال صفة المظلومية المزعومة لشخصيات كانت تعد بالبديل الإيجابي للنظام السابق، قبل أن تصطدم بحجم صعوبة المسؤولية وتمنى بفشل ذريع بعد 2011، وقبل أن تنخرط في معركة تقاسم الغنائم طيلة عشرة أعوام لتكون النتيجة اصطفافا شعبيا واسعا إلى جانب الرئيس سعيّد باعتباره لم ينخرط سابقا في الصراع على المصالح، ولم ينتم في يوم من الأيام إلى حزب سياسي أو إلى جماعة ضغط، ولم يحسب على طرف إقليمي أو خارجي.
على الرئيس سعيّد ألّا يحاول المساس برغيف الشعب حتى لا يكون عرضة لغضب الشارع وانقلابه على قرارته
ولا يستطيع الرئيس سعيّد قمع معارضيه الذين يسعون مع كل يوم جديد لرفع مستويات خطابهم المعادي له ولمشروعه، وحتى عندما صدر حكم قضائي غيابي بالسجن ضد الرئيس المؤقت الأسبق منصف المرزوقي، فإنه لن يكون من السهل تنفيذه بل أن المرزوقي استغله لفائدته لإعادة إحياء دور سياسي مزعوم طالما اشتغل عليه سواء في عهد بورقيبة أو في عهد بن علي كرمز للمعارض الحقوقي المرتبط بمراكز القرار في عواصم غربية والمحسوب على محور بعينه في المنطقة.
واليوم عندما يعلن معارضو سعيّد الدخول في إضراب عن الطعام، فهم يسعون لتضييق الخناق على النظام. إنهم يجتمعون من مختلف الأيديولوجيات الوافدة للاحتجاج بأشكال مألوفة وأخرى مبتكرة لإحراج النظام أمام الدول الغربية والمانحين الأجانب، ولتقديمه في صورة النظام المنقلب على الدستور والديمقراطية وعلى الشرعية والقانون والالتزامات السابقة مع العالم الحر.
ويتجه هؤلاء المعارضون إلى التصعيد خلال المرحلة القادمة بهدف التشويش على خارطة الطريق ومحطاتها بدءا من الاستشارة الشعبية، وسيسعون للاستفادة من الأوضاع المالية والاقتصادية المتردية ومن أية نتائج سلبية مترتبة عن مشروع قانون المالية للعام 2022 وعن الإصلاح الهيكلي الاقتصادي، وكذلك من أي خلاف قد يتسع مع النقابات، بينما سيجد الرئيس سعيّد صعوبة في تمرير وتكريس أي نظام سياسي بديل غير متفق عليه، فالدعم الشعبي العام غير كاف إذا لم يكن مستندا إلى توافق مع الأحزاب والتيارات السياسية والمنظمات الوطنية وقوى المجتمع المدني والنخب الأساسية ذات التأثير المباشر في المجتمع والمتنفذة مع مراكز القرار والنفوذ في الخارج لاسيما في الدول المرتبطة بشراكات تاريخية مع تونس.
ولن تخلو المرحلة القادمة من معركة كسر عظام في تونس، لاسيما بين مشروع الرئيس سعيد ومعارضيه، وذلك في غياب تصوّر واضح من قبل مؤسسة الرئاسة لآفاق العلاقة مع الأطراف المقابلة: كيف سيواجه الرئيس القوى التي تناصبه العداء؟ كيف سيتصدى لخطواتها التصعيدية في بلد مفتوح أمام البث الإعلامي المباشر والتدخل الخارجي المعلن؟ وكيف سيتجاهل دور وتأثير الأحزاب السياسية وهو غير قادر على حلها أو تحييدها، ويرفض التحالف مع بعضها على الأقلّ؟ كيف سيتجاهل موقع وتأثير الاتحاد العام التونسي للشغل الذي سبق وأن أعرب في مناسبات عدة عن رفضه لأي مشروع مسقط لا توافق عليه القوى الوطنية؟ كيف سيتصدى للضغوط الداخلية والخارجية، لاسيما أن البلاد في حاجة إلى وفاق داخلي ودعم خارجي؟
وبينما سيكون موقف المعارضة صعبا أمام الانخراط الشعبي الواسع في مساندة خيارات الرئيس، فإن تلك القاعدة الشعبية قد تتعرض في أية لحظة إلى حالة من التصدع التام والشامل نتيجة أي تضييق على معيشة القطاع الأوسع من الشعب، وبذلك تتداخل جميع الخيارات ليكون من الصعب تحديد من سيضحك أخيرا ليضحك كثيرا.
سيراهن الرئيس سعيّد على تنفيذ خارطة الطريق وعلى الدعم الشعبي الواسع لإقرار مشروعه السياسي، وسيراهن معارضوه على تشويه صورة حركته التصحيحية في الخارج وتقديمها على أنها انقلاب ينهي آخر أمل في إرساء الديمقراطية في المنطقة بالتزامن مع مراهنتهم على مزيد من تردي الأوضاع المالية والاقتصادية في الداخل، انطلاقا من أن الشعب لن يتحرك ضد تدابير الخامس والعشرين من يوليو وما تبعها من إجراءات إلا في حالة واحدة وهي تعرض رغيفه اليومي للتهديد المباشر.
لقد كان الرغيف شعار أغلب التحركات الاحتجاجية، وسببا مباشرا لحركات التمرد ضد الدولة في تونس، وعلى الرئيس سعيّد ألّا يحاول المساس به حتى لا يكون عرضة لغضب الشارع ولانقلاب موقف الشعب من مناصر لقراراته إلى ثائر عليها.