تونس أسيرة نظام هجين لا ينتج شرعية

ما الفائدة من نظام سياسي هجين لا ينتج شرعية مكتملة؟ وما الفائدة من نتائج انتخابات صفّق لها الجميع لكنها لا تمنح الفائز فيها عصمة الحكم؟ هذه بعض الأسئلة التي تجوب شوارع تونس -التي كانت قبل شهر مكتظة بالناخبين- في كافة أرجاء البلاد شمالا وجنوبا، شرقا وغربا لانتخاب من سيحكمهم في السنوات الخمس القادمة.
هناك في تونس من خرج يوم 6 أكتوبر الماضي للإدلاء بصوته في الانتخابات التشريعية لا لشيء وإنما لمعاقبة يوسف الشاهد وحكومته، وهناك أيضا من ذهب إلى الانتخاب لمعاقبة حركة النهضة والحكومة معا، فيما ذهب آخرون لقطع الطريق إما أمام أحزاب لا تملك من الهوية سوى الشعبوية وإما أمام الأحزاب المحسوبة على النظام القديم.
لكن ما الذي حصل بعدما تم الإعلان عن نتائج الانتخابات التي فازت فيها حركة النهضة؟ إن كل ما حصل أن هؤلاء الناخبين يجدون أنفسهم اليوم ضحية نظام سياسي هجين لا يمكن أن يقود البلاد إلا إلى إعادة إنتاج ما يُسمى بسياسة التوافق التي سيتصافح وسيتصالح قبل تنفيذها وبعد تطبيقها مجدّدا قادة تخاصموا وتنافسوا خلال الحملات الانتخابية برفع شعارات متضادّة تقوم على قاعدة “هذا ما يريده الشعب”.
تعتمد تونس بعد ثورة يناير 2011 على نظام سياسي شبه برلماني يقوده قانون انتخابي لم يمكّن في أيّ من المحطات الانتخابية التشريعية سواء في 2014 أو 2019 أيّ حزب من أغلبية سياسية وبرلمانية تجعله يدير ظهره للخاسرين، لينكب على تشكيل حكومته وفق ما عرضه على الناخبين من برامج ملغومة بوعود مغرية أخرجت حتى الشيوخ والعجائز من بيوتهم لغمس أصابعهم في الحبر الانتخابي توقا إلى مستقبل أفضل يحصّن أحلام أبنائهم ويضمن لتونس الاستقرار.
الناخبون في تونس يجدون أنفسهم ضحية نظام سياسي لا يمكن أن يقود إلا إلى إعادة إنتاج ما يُسمى بسياسة التوافق على قاعدة هذا ما يريده الشعب
يتغيّر الآن المـلمـح السياسي في تونس، لتتفاوض حركة النهضة صاحبة أكبر عدد من المقاعد البرلمانية برصيد 52 نائبا، مع الجميع بلا استثناء دفعا منها للنجاح في تشكيل حكومة في غضون شهر قبل أن تأتي ساعة إحالة الملف برمته إلى رئيس الجمهورية قيس سعيّد ليكلف من يراه مناسبا بتشكيل حكومة التونسيين.
في قلب هذه المشاورات التي تقودها الحركة الإسلامية، تسقط كل المحظورات والممنوعات التي روّجتها لأنصارها في الحملات الانتخابية، فالنهضة اليوم مجبرة على التفاوض حتى مع أشد الأعداء والخصوم أي أحزاب تحيا تونس وقلب تونس والحزب الدستوري الحر المحسوبة على النظام القديم وهو ما لم يتأخر في إعلانه القيادي بحركة النهضة لطفي زيتون الذي دعا حركته إلى مد يدها للجميع بلا استثناء بمن في ذلك نبيل القروي رئيس حزب قلب تونس وعبير موسي زعيمة الحزب الدستوري الحر لتتلافى خطر السقوط والاندثار.
إن ما يحدث وما سيحدث من مفارقات في المشهد السياسي التونسي من عبث تلتقي فيه مختلف المشارب الفكرية والمدارس السياسية المتضادة لتحكم جنبا إلى جنب يترجم بصورة كاريكاتيرية ما قاله وما كتبه الشاعر التونسي الراحل محمد الصغير أولاد أحمد -الذي ظل قبل مماته محاصرا ومكفّرا من قبل الإسلاميين- “ذهبنا جميعا إلى الانتخاب ولم ينتخب أحد من نجح”.
سيجد الناخب التونسي نفسه في قادم الأيام بسبب ما أفرزه النظام السياسي محكوما بأحزاب وأسماء لم يخرج للانتخاب إلاّ لمعاقبتها وإخراجها من الحكم، لكن في كل هذا فإنه حتى وإن تشكّلت الحكومة الجديدة تحت أي مسمى مما تروجه الأحزاب، “حكومة وحدة وطنية” أو “حكومة مصلحة وطنية” أو “حكومة إنقاذ”، فإنها لن تكون مستقبلا صاحبة أغلبية مريحة تمكّنها من تنفيذ تصوراتها وبرامجها.
ستصطدم الحكومة الجديدة حتما في حال تشكّلها بنفس الإشكالات والعلل التي أصابت ما سبقها من الحكومات من انسداد سياسي أدى في كثير من المراحل إلى أيسر الطرق أي إسقاط الحكومة وتعويضها بأخرى لا تختلف عنها في شيء سوى في الأسماء، وهو ما سيجعل الحكومة القادمة بالضرورة تبحر وتنسج على منوال سابقاتها لتركز جهودها على المناورات والمقايضات لضمان بقائها ووجودها بدل التركيز على ما ينفع الناس من برامج اقتصادية واجتماعية وثقاقية… إلخ.
عند سؤال جل الفاعلين السياسيين، بمن فيهم من حكموا تونس في فترة ما بعد الثورة ومن سيحكمونها مستقبلا على ضوء نتائج الانتخابات التشريعية، عن مرد انتهاجهم لنظام سياسي عقيم، تكون تعلاّت إجاباتهم غير مبررة ببرامج سياسية بقدر ما تكون مغازلة لعواطف شرائح شعبية واسعة عبر تسويق شعار “لا نريد نظاما سياسيا رئاسيا يعيد إنتاج بن علي جديد” في إشارة إلى الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي.
لكن سرعان ما تسقط كل أطروحاتهم هذه بمجرّد إعادة النظر إلى الوراء قليلا واسترجاع هرولة كل الأحزاب بلا استثناء يمينا ويسارا لتقدّم مرشحا للانتخابات الرئاسية، ليتبيّن أن الجميع مسكون في عقله السياسي ببن علي الذي كان يحكم البلاد بسلطات واسعة، إذن لِمَ كل هذا الإصرار على نظام سياسي “ثوري” لا ينتج سوى الفشل؟
إن الإجابة عن السؤال الأخير، تمر حتما باسترجاع دوافع من صاغوا ودفعوا وخطّوا دستور الجمهورية الثانية المصادق عليه في 2014، وفي مقدّمتهم حركة النهضة الإسلامية التي تشبثت بنظام شبه برلماني لضمان أمد طويل في حكمها.
إن حركة النهضة الإسلامية تدرك جيّدا أنه سيأتي يوم تنقشع فيه “تخميرة” الثورة وأنها لن تتمكّن بسهولة في المستقبل من العودة إلى السلطة إن خسرت الانتخابات في حال مصادقتها على نظام سياسي يتم فيه التداول على السلطة على قاعدة “الفائز يحكم والخاسر يعارض” لا على قاعدة التوافق الذي يطيل أمد حكمها حتى إن تراجعت شعبيتها، أما هدفها الأساسي فيبقى بلا شك متعلقا بتشتيت مسؤوليات الحكم وعدم تمكين التونسيين من فرصة محاسبة من حكم فعلا بلدهم وقاده إلى مراكمة سياسات الفشل.