تونسيون يواجهون عقدهم النفسية بعد صمت دام عقودا

ازدياد أعداد المرضى النفسيين دليل عدم تحرج من المرض أم مؤشر على خلل مجتمعي.
السبت 2019/12/21
السعادة قرار

حتى اليوم يعاني المريض النفسي في العالم العربي من الكثير من الاضطهاد. يختلف الأمر في تونس فالأغلبية لم تعد تتحرج من مرضها النفسي، وتكشف الإحصائيات أن أعداد المرضى النفسيين في ازدياد عاما بعد آخر. لكن الغريب في الأمر أن المختصين النفسيين يقولون إن الأمر يعكس مناخ الحرية.

تونس – ترافق سرور صديقتها زهراء شهريا إلى موعدها مع الطبيب النفسي في “الرازي” مستشفى الأمراض النفسية والعقلية الذي يقع وسط محافظة منوبة.

تتشارك سرور وزهراء الغرفة نفسها  في المبيت الجامعي بمنوبة، تكن سرور لزهراء التي تكبرها بـ13 عاما احتراما وحبا كبيرين، إنها تقدر فيها عدم استسلامها رغم كل شيء.

انقطعت زهراء عن الدراسة، لكنها عادت بعد 10 سنوات لاجتياز امتحان الباكالوريا بنجاح لتلتحق بعدها بجامعة منوبة لدراسة الآداب العربية.

تقول زهراء عن مرضها “ومن منا ليس مريضا نفسيا، داخل كل منا عقدة نفسية بهذا الحجم” تفتح ذراعيها على كبرهما “جميعنا نحتاج إلى علاج في أسرع الأوقات”.. وترفق كلماتها بضحكات هازئة.

100 ألف مريض نفسي يزورون العيادات الخارجية لمستشفى الرازي سنويا

وتؤكد زهراء أن مرضها النفسي  “وراثة” مثلما أخبرتها طبيبتها. كانت تشكو قلة نوم وتقلبات حادة في المزاح.. تعاني معظم الأوقات من الاكتئاب. تمزح “البعض يرث مالا وعقارات والبعض الآخر يرث عقدا نفسية”.

تتابع أن حالتها تحسنت الآن، وأصبحت تضحك كثيرا بعد أن كانت كثيرة البكاء.

أخوها أيضا ذلك الطالب المتميز في الرياضيات، كما تؤكد، مريض نفسيا، لكنها تصر أنه “دخل وخرج في الحلة” بسبب حبه الكبير لابنة خالته التي تزوجت غيره. و”الدخول والخروج في الحلة” مصطلح تونسي أصيل يعني فقدان العقل.

بالنسبة لصديقة زهراء فزيارة المستشفى “متعة”، فقد باتت تعرف بعض المرضى الذين يعترضونها في مدخل المستشفى كل مرة، مرددين “اعطيني مية” (مئة مليم).

تختلف نظرة التونسيين إلى المرضى النفسيين حسب حالة كل واحد منهم. ورغم ذلك يشهد المجتمع التونسي تغيرا عميقا في نظرته إلى الطب النفسي والمرضى النفسيين حتى أنه بين الفينة والأخرى تصبح زيارة طبيب نفسي “موضة”.

لقد طبّع التونسيون بصفة عامة مع المرض النفسي حتى أن أشهر سيتكوم في تونس بعنوان “شوفلي حل” الذي يبث على التلفزيون الحكومي على طول العام بطله طبيب نفسي ومرضاه مواطنون عاديون في المجتمع لكل منهم حكايته.

ورغم ذلك لا تزال فئة مجتمعية تنظر إلى المرضى النفسيين نظرة توجس وتقول عنهم إنهم “أصحاب الأوراق الحمراء” التي تعني أنهم لا يحاسبون على أفعالهم.

تمرد كامل

التونسي نفسه لم يعد يعرف نفسه
التونسي نفسه لم يعد يعرف نفسه

يقدر عدد المرضى الذين زاروا مستشفى الرازي خلال السنة الماضية أكثر من 100 ألف مريض نفسيا.

ويقول الدكتور فتحي ناصف رئيس أحد الأقسام النفسية في مستشفى الرازي إنّ المستشفى يعتبر المؤسسة الوحيدة في البلاد لمعالجة المرضى النفسيين، التي تحتوي على جانب اجتماعي وعائلي كبير يطغى على العلاقة بين طاقمها والمرضى الذي يعتبرون “الرازي” عائلتهم الثانية، خاصة باعتبار انتماء 50 بالمئة منهم إلى الطبقة الاجتماعية الضعيفة.

وأكّد أنّ عدد الإيواءات بالمؤسسة يتوزع نحو حوالي 16 ألف إيواء، وحوالي 100 ألف عيادة سنويا، مشيرا إلى أنّ أغلب المرضى الوافدين على الرازي هم بصفة عامة الذين يعانون أصعب الحالات المرضية المستعصية، زد على ذلك افتقارهم إلى أي سند عائلي. ويقول ناصف إن أصعب أنواع الأمراض التي يحملها المرضى المقيمون بالرازي، يتمثل في مرضي “الفصام في الشخصية” و”اضطرابات المزاج”، معتبرا أنّ حالة الفصام تمسّ حوالي 1 بالمئة من أفراد المجتمع التونسي أي ما يعادل 100 ألف تونسي.

أمّا بخصوص حالة اضطراب المزاج فأكد ناصف أنّ حوالي 5 بالمئة من أفراد المجتمع التونسي يعانون من هذه الحالة النفسية المرضية أي حوالي 500 ألف تونسي.

"الفصام في الشخصية" يمس 1 بالمئة من أفراد المجتمع التونسي فيما يعاني 5 بالمئة من "اضطرابات المزاج"

وأشار إلى أنّ الذكور أكثر من الإناث في ما يخص الأشخاص الحاملين لأمراض نفسية من المقيمين بمستشفى الرازي، مرجعا ذلك إلى أنّ الرجال تظهر عليهم علامات الاضطرابات النفسية أكثر من النساء، زد على ذلك طبيعة النظرة التقليدية القاسية لحاملي هذه الأمراض.

وأكدت بيانات مستشفى الرازي أن الاكتئاب يبقى في الصدراة ويحتل رأس قائمة الأمراض النفسية والعقلية التي تصيب التونسيين.

وقد طال مرض الاكتئاب نحو 8.2 بالمئة من مجموع السكان في تونس، وفق آخر التقديرات.

ويمس الاكتئاب كل الشرائح العمرية، إلا أن ثمة فترات من العمر ترتفع حدته خلالها. وتصل نسبة الانتكاسات بهذا المرض إلى 80 بالمئة، وهو ما يجعله يصنف ضمن الأمراض المزمنة بحسب مستشفى الرازي.

وتحتل تونس المرتبة الـ102 في مؤشر السعادة عالميا، حيث تشير الأرقام والتقارير الرسمية الصادرة عن وزارة الصحة إلى أن قرابة 30 بالمئة من السكان مصابون باضطراب نفسي و40 بالمئة من المرضى يعانون من أمراض عضوية ناجمة عن مشاكل نفسية مثل آلام الرأس، والتي تصنف ضمن حالات القلق والاكتئاب المنتشرة في تونس.

ووفق مسح أجرته منظمة الصحة العالمية فإن واحد من كل اثنين من التونسيين يعاني من اضطرابات عقلية.

وقال الرئيس المدير العام لمؤسسة إمرود كونسلتنغ لاستطلاعات الرأي نبيل بالعم إنّ ما يقارب 90 بالمئة من حالات الاكتئاب في تونس سببها تدهور الوضع الاقتصادي.

وتطور عدد العيادات الطبية بمستشفى الرازي للأمراض النفسية والعصبية، بعد ثورة 14 يناير 2011 بنسبة 20 بالمئة، إذ بلغ عدد العيادات الخارجية خلال سنة 2016 حوالي 7914، حسب رئيس مصلحة الطب النفسي في مستشفى الرازي، ريم غشام. كما تشير المعطيات إلى زيادة عدد العيادات الطبية، في مجال الصحة النفسية، في القطاع الخاص.

 وقالت غشام “إن هذه المؤشرات وإن كانت تبرز تردي الوضع الاجتماعي والاقتصادي، فهي تعكس مناخ الحرية الذي أصبح يسود البلاد وعدم التحرج من هذه الأمراض النفسية”.

وتلاحظ رئيس مصلحة الطب النفسي في مستشفى الرازي أنه “بعد سنوات طويلة من الصمت، خرج التونسي إلى تمرد كامل بعد الثورة، كما لو كان يعفي نفسه من هذا الصمت الذي استمر لفترة طويل”. وأضافت “هذا التونسي نفسه لم يعد يتعرف على نفسه، إنه يسعى إلى تأكيد هويته، إنه يبحث أيضا عن أفكاره ويحتاج إلى دليل جديد يثق به حقا”.

من جانب آخر، أثبت تحقيق استقصائي “أن 98 بالمئة من عطل المرض طويلة المدى في الوظيفة العمومية مرتبطة بأمراض نفسية تسببت سنة 2015 في ضياع 172 ألف يوم عمل كمعدل سنوي أي ما يعادل 4.6 مليون دينار (2.6 مليون دولار) من الخسائر سنويا”.

ويعاني بعض العاملين في عدد من الأسلاك المهنية الحساسة من أمراض عقلية ونفسية عديدة وهم يمثلون حوالي 40 بالمئة ممن يتلقون العلاج في مستشفى الرازي وسائر الأقسام المتخصصة بالمستشفيات في البلاد.

وزارة الصحة العمومية التونسية تقول إن الصحة العقلية والنفسية تمثل حوالي 19.6 بالمئة من الكلفة الجملية لمختلف الحالات المرضية في تونس

وأقرت الأخصائية النفسية، عفاف كرعود، من جانبها بالتأثير السلبي للاكتئاب والاضطرابات النفسية على الإنتاج والإنتاجية في المؤسسات، ذلك أن المعالجة النفسية تتطلب، في بعض الحالات، ابتعاد المرضى عن أماكن العمل وتمتيعهم بعطل مرضية طويلة المدى.

وعابت عفاف كرعود نقص تكفل أنظمة التغطية الاجتماعية في تونس بالأمراض النفسية، زد على ذلك الاعتقاد السائد لدى الكثيرين بأن هذه الأمراض “لا تصيب إلا الآخرين” مؤكدة ضرورة التعامل بجدية مع هذه الأمراض التي أضحت مرضا فيزيولوجيا ووراثيا.

ويتجلى تفشي الأمراض النفسية في تونس في ارتفاع مبيعات الأدوية المهدئة للأعصاب والمضادة للاكتئاب والضغط النفسي.

فقد أكد أحد العاملين بصيدلية أن ما يزيد عن 10 أشخاص يقتنون يوميا الأدوية المهدئة سواء من خلال الاستظهار بوصفة طبية أو من دونها.

ويقول الدكتور عماد الرقيق الأخصائي في الأمراض النفسية والعصبية، إن عددا كبيرا من التونسيين يتناولون أدوية لتهدئة الأعصاب.

وقال الرقيق إن بين 70 و80 بالمئة من التونسيين تظهر لديهم علامات نفسية، مشيرا إلى أن هذه العلامات يمكن أن تتطور إلى أمراض.

ولاحظ الأخصائي أن بين 25 و30 بالمئة تطورت لديهم الحالات النفسية والعلامات وتحولت إلى أمراض نفسية.

تكلفة عالية

الظروف الصعبة التي يعيشها المواطن من الأسباب الرئيسية لهذا المرض
الظروف الصعبة التي يعيشها المواطن من الأسباب الرئيسية لهذا المرض

تكلف أمراض الاكتئاب والاضطرابات النفسية الاقتصاد العالمي حوالي 1000 مليار دولار سنويا استنادا إلى ما ذكره تقرير منظمة الصحة العالمية لسنة 2017، وأكدت المنظمة إمكانية تفاقم الوضع في المستقبل القريب باعتبار أن الاكتئاب يمكن أن يكون في أفق 2020 السبب الأول للوفاة في صفوف النساء والثاني بالنسبة للرجال (بعد أمراض الشرايين والقلب). وتعتبر كلفة علاج الأمراض النفسية حاليا أكبر من تكاليف المشاكل الصحية الأخرى، ومن المتوقع أن تصل هذه الكلفة إلى 6 تريليونات دولار سنويا بحلول عام 2030.

ويرجع العديد من الأكاديميين والمتخصصين الأمر إلى فوضى تسيير دواليب البلاد وترديها في سياق عدمية وتدهور القدرة الشرائية بنسب قياسية بلغت 80 بالمئة، وتدني جودة الحياة وما رافق ذلك من احتجاجات متواصلة إضاقة إلى ارتفاع نسق العمليات الإرهابية في السنوات الأخيرة وهو ما عمق خوف التونسيين.

ويشير استطلاع رأي الشباب العربي لعام 2019 إلى أن ثلث الشباب العربي يقولون إنهم يعرفون شخصا يعاني من مشكلات نفسية.

وأشار نصف الشباب العربي ممن شملهم الاستطلاع إلى أن طلب الرعاية النفسية في بلدانهم يعتبر أمرا سلبيا، وأن وصمة العار التي تلحق بالأشخاص الذين يعانون من مشاكل نفسية موجودة بالفعل، رغم العديد من الحالات الشجاعة التي تسعى لطلب العلاج والتي ستستمر بلا شك وتنتقل إلى الأجيال القادمة.

وبالطبع لا تعتبر وصمة العار الحائل الوحيد دون طلب الرعاية الصحية النفسية. فما الفائدة من طلب الرعاية إذا كانت غير متوفرة، أو إذا كانت دون المعايير المطلوبة؟ إذ أشار 55 بالمئة من الشباب العرب المشاركين في الاستطلاع إلى صعوبة الحصول على خدمات رعاية نفسية جيدة في بلدانهم.

وفي هذا السياق، يعرف النظام الصحي في تونس تهاويا وتراجعا كبيرا على غرار بقية المؤسسات العمومية الأخرى التي بُني عليها المشروع التحديثي لدولة الاستقلال والتي راهنت على الخروج من التخلف وتحقيق التنمية.

وقد أظهرت “ثورة 14 يناير 2011” زيف الإحصائيات وحجم اللامساواة الكبير بين الفئات الاجتماعية بما يتعلق بلبحصول على الخدمات الصحية، فصارت المنظومة الصحية العمومية أحد عناوين غياب العدالة الاجتماعية.

ورغم ذلك تؤكد مديرة إدارة الصحة بوزارة الصحة التونسية، نبيهة بورصالي، وجود برنامج متكامل للصحة النفسية بتونس متنوع حسب المحاور، ومنها ما يهم صحة الأطفال وصحة التلاميذ والطلبة وصحة الكهول والمسنين. ومن بين البرامج التي رصدتها الوزارة برنامج لمقاومة الاكتئاب عند التونسيين.

20