توصية من صديقي الكردي

الأحزاب الكردية يجمعها حلم الاستقلال ويفرقها صراع مستميت على المغانم والنفوذ والسلطة في حين يعيش المواطنون في أدنى درجات الفقر والعوز حالهم حال الأحزاب السنية التي تلتقي في المضايف والدواوين.
الخميس 2024/03/07
الأكراد ضحايا لعبة سياسية متعددة الأطراف

لم أكن أتوقع أن تتسبب التوصية التي دسّها في يدي صديقي السياسي الكردي لتسهيل الأمر عندما أخبرته بالنيّة لزيارة إقليم كردستان لإجراء الفحوصات الطبية في إحدى مستشفياته لأحد أفراد العائلة بذلك الحرج والإرباك حتى ذهب إلى مُخيلتي المتواضعة أن تلك الرسالة ربما ستتسبب بأزمة سياسية بين بغداد وأربيل!

استلم الموظف المسؤول عن منح التأشيرات والموافقات الذي يقع في بداية الحدود الجغرافية للإقليم توصية ذلك الصديق السياسي، وما إن تمعن بها حتى بان على ملامحه الانزعاج والنفور وتصاعد نبرات الغضب.

اعتقدت أني ربما أكون في هذه اللحظات في موقف من مواقف الكاميرا الخفية، إذ كيف لهذا الموظف أن يرفض توصية مسؤول حكومي معروف ضمن حكومة الإقليم وكذلك حكومة المركز.

كانت ملامح مسؤول التأشيرات تزداد انزعاجاً كلما طال الموقف، وتلك الأسئلة التي يكررها ويسألني عنها، كيف وأين ومتى تعرفت على هذا السياسي؟

للوهلة الأولى اعتقدت أن الرسالة تحوي شتيمة أو إهانة لقارئها حتى شعرت أن الضابط بدأ يهيئ إجابته لرفض دخولي مع من يرافقني إلى عاصمتهم، لولا محاولاتي الأخيرة لإقناعه بأن معي حالة صحية تستوجب العلاج العاجل في مستشفيات أربيل.

لا يختلف الواقع السياسي للأحزاب السنية والكردية عن نُظرائها الشيعة التي تعيش حياة السلاطين وقصص ألف ليلة وليلة في تبرجها وبذخها، بينما جماهيرها في الوسط والجنوب تعيش أحلك الأزمنة وأقسى الظروف

المفاجأة الثانية التي صدمتني هي ردود أفعال صديقي السياسي حين عاتبته على الرسالة فجاء جوابه أن توصيته كانت موجهة إلى نقطة التأشيرات في السليمانية معقل الإتحاد الوطني الكردستاني الذي يرأسه بافل طالباني نجل الراحل جلال طالباني رئيس الجمهورية الأسبق الذي يكون صديقي أحد أعضائه، وإن أربيل التي كنت متوجهاً إليها هي معقل الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتزعمه مسعود بارزاني، حينها أدركت حجم الخطأ الفادح الذي وقعت فيه بالرغم من اعتقادي أنهم في كفة ميزان واحدة.

خلاصة هذه التجربة جعلتني أستنتج أن أربيل تعني مسعود بارزاني وحزبه والسليمانية يحكمها آل طالباني.

سردية التاريخ الكردي ربما يختلف عنوانها عن الآخرين من القوميات والطوائف، فهؤلاء يجمعهم حلم الدولة الكردية المنشودة، وتفرقهم المصالح والمنافع وحتى الميول السياسية، فحزب طالباني يميل إلى إيران، بينما يتخذ غريمه بارزاني تركيا قبلته التي يحتفظ معها بعلاقات سياسية واقتصادية وثيقة.

جميل هو الشعب الكردي بِزيّه التقليدي وخُلقه المتواضع وبساطة حياته الجبلية، مجتمع هادئ سحقته أحزاب السلطة الحاكمة في الإقليم، وزادت حياته تعقيدا وإرباكا ووصلت إلى قوته ومعاشه.

طالما اتهمت بغداد حكومة الإقليم بعدم تسليم أو تأخير رواتب الموظفين الكرد ومتقاعديهم، الذين أصبحوا ضحايا لعبة سياسية ومناورة تتقاذفها رياح المناوشات بين المركز والإقليم.

الأحزاب الكردية يجمعها حلم الاستقلال ويفرقها صراع مستميت على المغانم والنفوذ والسلطة، في حين يعيش المواطنون في أدنى درجات الفقر والبطالة والعوز، حالهم حال الأحزاب السنية التي تلتقي في المضايف والدواوين لتقاسم النفوذ والمناصب وخيرات السلطة، في حين يعيش جمهورها في خيم النزوح مهجّرا أو مهاجرا ترك منازله هرباً من روائح الموت التي كانت تلاحقه، وغرابيب داعش التي تحوم في سمائه، ويحكم قراره ساسة لا يعترفون به ويحسبون أنهم يمثلونه.

رسالة صديقي جعلتني على يقين أن كردستان لن يُكتب له الاستقرار مادامت أجواؤه تترنح بين هدوء وعاصفة أو حتى مد وجزر

لا يختلف الواقع السياسي للأحزاب السنية والكردية عن نُظرائها الشيعة التي تعيش حياة السلاطين وقصص ألف ليلة وليلة في تبرجها وبذخها وهي التي تلعن حكم هارون الرشيد وترفه، بينما جماهيرها في الوسط والجنوب تعيش أحلك الأزمنة وأقسى الظروف ومشاهد مخجلة لعوائل تبحث عن فُتات الطعام أو ما تجود به النفايات في مواقع الطمر الصحي، في الوقت الذي تفتك بالناس أمراض السرطان من جراء الغازات السامة المنبعثة من شركات النفط المتواجدة على تلك الأرض، وتلك هي المفارقة المبكية، فقر مُدقع تقابله خيرات مهولة تقبع في باطن الأرض تكفي لإشباع وتمويل دول أخرى غير العراق.

أحزاب سنية وشيعية وكردية لا تختلف عن بعضها حتى في طرق التناسل والتفريخ، فالعملية متشابهة بل ومتطابقة.

رسالة صديقي جعلتني على يقين أن كردستان لن يُكتب له الاستقرار مادامت أجواؤه تترنح بين هدوء وعاصفة أو حتى مد وجزر، ومادام الفاعل الخارجي يعبث بموقفه في تحديد الاتجاه والميول، ومادامت الولاءات متعددة والمصالح متغيرة وخيوط اللعبة تتحكم بها أصابع الخارج فإن مصير كردستان لن يختلف عن بغداد، مثل لعبة

الدومينو التي تتساقط أحجارها بالتتابع.

إلى وقت قريب كان الإقليم الكردي ملاذاً آمناً للكثير من العراقيين من لهيب الصيف وجمال الطبيعة وروعة الشلالات التي تجذب السياح بكل أشكالهم وألوانهم، لكنها لعبة السياسة التي تقلب الموازين.

قبل أن أنتهي من حكايتي تمنيت لو لم أستلم تلك التوصية التي سببت “دوخة رأس” وربما كان الأفضل لي أن أمزقها لأريح وأستريح.

9