توجس كردي من التقارب الأردوغاني - الأسدي.. بؤس الدبلوماسية الكردية في سوريا

كلما حدث تقارب بين اللاعبين المنخرطين في المأساة السورية بحيث يتراءى فيه أن الكُرد هم من المستهدفين والخاسرين، دبَّ القلق والذعر في صفوف الكُرد وقواهم السياسية، ولاسيما حزب الاتحاد الديمقراطي خوفاً على سلطته الاستثنائية والفريدة المتمثلة في الإدارة الذاتية لشمال سوريا وشرقها. والسبب وراء الاضطراب والهلع الكردي الفاقع هو الخشية من أن يؤدي أيّ تفاهم بين أولئك اللاعبين إلى توجيه ضربة جديدة للتطلعات الكردية في سوريا أو تقويض ما هو موجود على الأرض على الرغم مما يعتريه من شوائب جوهرية.
وكأن الدبلوماسية الكردية في سوريا، مع الافتراض جدلاً بوجود مثل هذه الدبلوماسية، لا تستطيع العيش والبقاء إلا على التباينات بين الفاعلين الآخرين المتورطين في الشأن السوري، هذه التباينات التي لم يكن للكُرد أنفسهم أيّ دور محوري في ولادتها. وكأن التناقضات بين عديد المشاركين في الأزمة السورية هي أزلية من وجهة النظر الكردية، أو على الأقل يأمل الكُرد أن تكون أزلية أو أن تعمر لأطول فترة ممكنة، لأن في ذلك إدامة لما يعتبره بعض الكُرد بالمكتسبات التي ظهرت في خضم المعضلة السورية.
هذا الأداء والسلوك البدائي يتنافى مع أبسط أسس السياسة وقواعدها؛ ألا وهي حصول تبدلات دائمة في التكتيكات والمواقف شريطة أن يخدم ذلك الاستراتيجيات، بما أن طبيعة السياسة لا تعرف الركود والجمود إلا بالنسبة إلى الدخلاء عليها والذين يعيشون على الهامش ويعتاشون على فتات الآخرين ويحتمون ويأتمرون بهم. وهذا بدوره يوحي بخواء الفكر والتفكير السياسي الكردي في سوريا الذي لا يستطيع بلورة دبلوماسية عصرية من شأنها إدراك واستيعاب تعقيدات لعبة الأمم المبهمة الجارية على الرقعة السورية، وبالتالي المواءمة مع متطلباتها ومستجداتها.
آخر فصول هذا الفزع تمثّل في ردود الأفعال الرسمية والشعبية الكردية التي أعقبت تصريحات المسؤولين الأتراك والسوريين بإمكانية عودة العلاقات بين تركيا وسوريا، أو بالأحرى بين النظامين التركي والسوري، إلى سابق عهدها. تراوحت هذه الردود بين الاندهاش من هكذا تطور والارتياع من مآلاته، وما سيجلب للكُرد من تبعات لن يحمد عقباها، في حال تكللت المساعي الروسية لإعادة تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق بالنجاح، واعتبار ذلك مسبقاً بمثابة ضربة مؤلمة إن لم تكن قاضية للطموح الكردي الآيل تدريجيا إلى الانكماش في سوريا ما بعد مرحلة الحرب.
وكلا الانطباعين هنا، أي الذهول والفزع من رهاب المجهول أو رهاب المستقبل، ينمان عن فهم طفولي للسياسة وممارسة غارقة في الطوباوية والاعتباطية ليس لهما أي أساس علمي، على قاعدة “يا تصيب يا تخيب”، مع ما يترتب على ذلك من المجازفة والمقامرة بالشعب والوطن والقضية، فقط من أجل المشاركة غير المباشرة في حلبة المنافسة الإقليمية والدولية في سوريا، لكن من دون الإلمام بأبسط قواعدها التي لا تعتمد فقط على عنصري القوة والمصالح كما هو رائج، وإنما أيضا على عامل المرونة، الذي طالما افتقده وافتقر له الساسة الكُرد.
السبب في اعتبار الكُرد أكبر الخاسرين لا يعود فقط إلى ندرة الخيارات أمامهم أو لأنهم أضعف اللاعبين على الساحة السورية، ولكن أيضا بسبب الجهل والغباء السياسي المزمن
وقد سبق للكُرد في سوريا أن عاصروا مثل هذا المشهد الدراماتيكي في الماضي القريب جدا، عندما أبرمت كل من تركيا وروسيا صفقة في بداية 2018 سُمّيت لاحقاً من قبل الضحايا الكُرد بصفقة “عفرين لتركيا مقابل الغوطة لروسيا والنظام السوري”. كذلك عقد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب صفقة هاتفية خاطفة مع الرئيس التركي أردوغان في خريف 2019 والتي أفضت إلى احتلال تركيا لكل من سرى كانيه (رأس العين) وكرى سبي (تل أبيض). والهلع الكردي الآن في أوجه من تكرار مثل هذا السيناريو الكارثي، بشكل أو بآخر، بين تركيا ونظام الأسد وبإشراف ومباركة روسية مع الخصوصية التي سيتفرد بها هذا السيناريو خلال هذه المرة، في حال حدوثه مجددا.
القراءة الكردية المبدئية حول آفاق التوافق بين أنقرة ودمشق وما قد يتمخض عنها تقليدية بكافة المعايير، وبالمعنى السلبي للكلمة، بحيث تعكس المظلومية التاريخية الكردية، وبأن الكُرد هم الضحايا الأبديون في لعبة الأمم وعمادها القوة والمصالح، وبأنهم وقود صراعات الآخرين يكتوون دائماً بلظاها، بما أنهم أضعف اللاعبين فيها، وبأنه لم يكن بالإمكان أفضل مما كان.
هكذا كان الكردي، وما يزال، يسوّغ هزائمه التي يتخم بها تاريخه وحاضره ملقياً باللائمة على الآخرين المتآمرين، مبرّئاً ومبرّرا لقادته وساسته، أي للذات أو الذوات الكردية، كل الذنوب والخطايا. كل هذا وغير ذلك من الإبداع والإسهاب في عتاب الآخرين المذنبين ومهاجمتهم دون أيّ إيماءة أو إيحاءة مهما كانت خجولة إلى مسؤولية الساسة والقادة الكُرد داخل سوريا وخارجها حول ما آل إليه مصير الكُرد في سوريا.
لم يرتق الأداء السياسي الكردي في سوريا إلى مستوى من شأنه خلق دبلوماسية راقية تستطيع من ناحية صون ما يعتبره البعض مكتسبات، ومن ناحية ثانية اللعب بجدارة وحرفية وإتقان مع الكبار والإفلات قدر المستطاع من مكائدهم التي لا تنتهي.
لكن مع الأسف، بما أن أساس الحالة الكردية الراهنة في سوريا، أو كما تتراءى للبعض بأنها كردية، والتي ظهرت في أعقاب ما سمّي “بالربيع السوري” كان رخواً ويعتريه الكثير من المثالب، لذلك كان المولود مشوهاً شكلاً ومضموناً. ونتيجة لهذا انعدمت المقومات التي من شأنها إنتاج مثل هذه الدبلوماسية المتطورة. وبالتالي تلقّى الكُرد ضربات موجعة متتالية لم تؤثر فقط على مساعيهم في التمتع ببعض الحقوق، وإنما شكلت أيضاً خطرا جدياً على وجودهم وديموغرافية مناطقهم وتعدادهم الآخذ في التراجع.
والسبب لا يكمن فقط في الضربات التركية المتعاقبة لمناطقهم منذ 2016، وإنما أيضا في تهور المسؤولين الكُرد وعدم أهليتهم وعقلانيتهم ولامبالاتهم، سواء الذين يقودون الإدارة الذاتية أو المناوئون لهم في المجلس الوطني الكردي المنضوي ضمن الائتلاف الإخواني المعارض التابع لتركيا وقطر.
فمن ناحية، أخفقت سياسات حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يقود الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية في إقناع الأميركان بأن مهمة الكُرد في سوريا لا تنحصر فقط في محاربة عناصر تنظيم داعش، وأن لهم قضية قومية وخصوصية يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. بمعنى آخر، الكُرد ليسوا فقط مقاتلين تحت الطلب، وإنما شعب يتطلع منذ الأزل إلى الاعتراف به دستورياً وأن له حقوقا تاريخية يتوق إلى التمتع بها.
لم تفلح هذه السياسات في إقناع الأميركان بالمساهمة اقتصاديا واستثماريا بتطوير المناطق الواقعة تحت سيطرة الإدارة الذاتية، أو على الأقل إعفاء تلك المناطق من آثار الحصار الأميركي والغربي الخانق ضد سوريا، ولاسيما الإفلات من تداعيات قانون قيصر الذي أضر بالشعب السوري أكثر بكثير مما أضر بنظام الأسد.
لم يرتق الأداء السياسي الكردي في سوريا إلى مستوى من شأنه خلق دبلوماسية راقية تستطيع من ناحية صون ما يعتبره البعض مكتسبات، ومن ناحية ثانية اللعب بجدارة وحرفية وإتقان مع الكبار
وانتهج حزب الاتحاد الديمقراطي سياسة واهمة مفادها أنه يستطيع نسج العلاقات مع واشنطن وموسكو في آن معاً، والاستفادة من تناقضاتهما في سوريا. فتارةً كان يحل ضيفاً على الروس في موسكو، وتارةً أخرى على الأميركان في واشنطن. وأحياناً كان يخوض بحماس مباحثات مع النظام السوري برعاية روسية، وأحياناً أخرى يصرف النظر عنها بسبب الامتعاض الأميركي، على الرغم من عدم جدية النظام في دمشق حول دراسة مطالب الإدارة الذاتية وتلبيتها.
فضلاً عن تحويل المناطق الكردية في سوريا إلى ساحة تصعيد ومواجهة مفتوحة مع تركيا، التي تعادي بالأساس أيّ طموح كردي مهما كان متواضعا وأينما وجد، وذلك بالقيام بنشاطات استفزازية حسب التأويل التركي، كرفع صور زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان في مداخل المدن والبلدات ومخارجها بما فيها ذات الأغلبية العربية، وتنظيم مسيرات ضخمة مناوئة لتركيا وأحيانا التوسيع المتعمد لرقعة الاشتباكات مع تركيا وذلك بإقحام القرى والمدن والبلدات الحدودية في دائرة الصراع غير المتكافئ مع الجيش التركي الذي لا يرحم، كما حصل في خريف 2019.
لم تكن السياسات التي تبناها المجلس الوطني الكردي في سوريا الموالي لأربيل، والمعارض بشدة لحزب الاتحاد الديمقراطي وإدارته الذاتية، والمنضوي ضمن الائتلاف السوري المعارض التابع لأنقرة أفضل حالا من غريمه اللدود، أي الاتحاد الديمقراطي، حيث فشل هذا المجلس في إقناع الائتلاف بتبني مواقف وحلول حضارية للقضية الكردية في سوريا القادمة، والابتعاد عن اللغة الاستعلائية والإقصائية والعنصرية حيال مطالب الكُرد وبقية المكونات غير العربية وغير السُنية في سوريا وحقوقهم.
ومنذ انضمام المجلس الكردي إلى هذا الائتلاف الإخواني الموالي لتركيا وقطر تعالت فيه المواقف العدائية حيال القضية الكردية في سوريا نظريا وعمليا، تحت ذريعة محاربة الانفصاليين الكُرد، في إشارة إلى حزب الاتحاد الديمقراطي، هذا الحزب الأبعد ما يكون عن تبني أجندات انفصالية لا بل وحتى قومية كردية.
ميدانياً، بادرت الفصائل المسلحة التابعة للائتلاف السوري المعارض إلى ارتكاب الفظائع والتهجير الممنهج ضد السكان الكُرد في عفرين وسرى كانيه وكرى سبي بهدف إحداث تغييرات ديموغرافية جذرية ضدّ الكُرد، هذا فضلا عن ممارسة النهب والسلب والاستيلاء على ممتلكات الكُرد والتي طالت الحجر والشجر وحتى الحيوانات. هذا بالإضافة إلى تورط قيادات بارزة في المجلس الكردي، وخاصة القابعين في أنقرة، بالارتزاق والعمالة والارتهان لإرادة المحتل التركي وقضايا فساد واغتناء غير مشروع باسم الشعب المنكوب والقضية الضائعة.
كافة المؤشرات تدل على أن التطبيع بين أنقرة ودمشق جار على قدم وساق، وأن الجهود الروسية ستتكلل بالنجاح في نهاية المطاف، وما التصعيد العسكري التركي الأخير ضد قوات قسد سوى القطرة الأولى في هذا الغيث المسموم، الذي قد يتحول فيما بعد إلى طوفان يجرف معه كل آمال الكُرد الذين دفعوا في سبيلها حتى الآن حوالي 15 ألف شهيد في محاربة داعش.
تحقيق التطبيع بين أنقرة ودمشق، وفي هذا الوقت بالذات، يصبّ في مصلحة النظامين الحاكمين في أنقرة ودمشق، إضافة إلى روسيا وإيران. وأكبر الخاسرين في سياق هذه المصالحة هم الكُرد لأنهم بمثابة القاسم المشترك الذي تعاديه أنقرة ودمشق وطهران، لا بل وحتى موسكو لما سيتمخض عن ذلك من توجيه ضربة للوجود الأميركي ودوره في سوريا.
والسبب في اعتبار الكُرد أكبر الخاسرين لا يعود فقط إلى ندرة الخيارات أمامهم أو لأنهم أضعف اللاعبين على الساحة السورية بالمقارنة مع بقية اللاعبين الدوليين والإقليميين، ولكن أيضا بسبب الجهل والغباء السياسي المزمن، وإخفاق الكُرد في توظيف كافة الخيارات والإمكانيات المتاحة في المكان والزمان المناسبين واستغلالها.