تناحر عرقي من أجل البقاء في تيغراي

سلط الصراع الدائر في تيغراي الإثيوبية الضوء من جديد على التوترات العرقية التاريخية في البلد الأفريقي، الذي يواجه أزمة تحولت إلى نزاع شرس يهز المنطقة، خاصة بين الأمهرة والتيغراي والمتواصل منذ عقود.
الحميراء (إثيوبيا) - تحوّل الصراع المتفاقم في إقليم تيغراي الإثيوبي المتنازع عليه إلى ما يشبه حالة “صراع من أجل البقاء” في إطار التناحر العرقي، وسط غياب الحلول السياسية لدى الحكومة في أديس أبابا لإنهاء الأزمة الممتدة منذ ثمانية أشهر.
وشنّ رئيس الوزراء آبي أحمد عملية عسكرية مطلع نوفمبر لطرد السلطات المحلية المنشقة المنبثقة عن جبهة تحرير شعب تيغراي، ونزع سلاحها. وقد وعد بـ”صد هجمات الأعداء” بعد هجوم جديد لمتمردي تيغراي، في الوقت الذي يفتح الباب أمام المجهول وسط تعقيدات كثيرة يشهدها الملف.
ويقول آبي حول تطورات الأوضاع في تلك المنطقة، “سندافع عن أنفسنا ونصد هذه الهجمات من أعدائنا الداخليين والخارجيين بينما نعمل على تسريع الجهود الإنسانية”.
ومنذ بداية النزاع في نوفمبر انتهزت قوات سلطات أمهرة الإقليمية انسحاب مقاتلي تيغراي للاستيلاء على الأراضي التي يعتبرونها تاريخيا ملكا لهم، ويندلع الآن حولها نزاع شرس وأصبحت في قلب الصراع الذي يهز المنطقة.
وعرقية الأمهرة هي ثاني أكبر طائفة عرقية بعد الأورومو في إثيوبيا. وبعد عقود من القمع، أشرف آبي على إصلاحات ديمقراطية شاملة أوصلته للفوز بجائزة نوبل للسلام. لكن الحريات الجديدة فتحت الباب لمطالب مكبوتة منذ زمن طويل بالمزيد من الحكم الذاتي والحقوق والموارد الإقليمية، بالإضافة إلى تفاقم النزاع الحالي في تيغراي.
ويقول أسفاو أبيرا، الذي فرّ من بلاده قبل ثلاثين عاما سيرا على الأقدام من غرب تيغراي حيث كانت تدور مواجهات بين الجنود الإثيوبيين والمتمردين، “يتحدثون أنهم مستعدون لتدميرنا لكننا باقون مهما حدث.. بمشيئة الله حان وقتنا الآن”.
نزاع قديم
تشكل التوترات العرقية التحدي الأكبر أمام آبي أحمد، بعد أن استعاد المتمردون السيطرة على جزء كبير من تيغراي بما في ذلك العاصمة الإقليمية ميكيلي مما دفع الحكومة إلى إعلان وقف إطلاق النار من جانب واحد.
والرجل البالغ من العمر 47 عاما وينتمي إلى عرقية الأمهرة انهمرت من عيناه الدموع عندما رأى من جديد حقول السمسم والذرة التي نشأ بينها، حيث كان يحلم بها ليل نهار عندما كان في منفاه في السودان.
ونظمت سلطات منطقة أمهرة المتاخمة لجنوب تيغراي، عودة أسفاو أبيرا مع الآلاف الآخرين لتعديل التوازن الديموغرافي في أقصى غرب هذه المنطقة، حيث يشهد إقليم تيغراي نزاعا حادا أودى بحياة الآلاف ودفع مئات الآلاف إلى حافة المجاعة.
وحققت القوات الموالية لجبهة تحرير شعب تيغراي تقدما في الأيام الأخيرة، فبعدما استعادت عاصمة الإقليم ميكيلي، باتت تستهدف الآن “الغزاة” الأمهرة وشنت هجوما الاثنين الماضي لاستعادة “كل سنتيمتر مربع” من تيغراي.
ويتواجه الأمهرة والتيغراي منذ عقود حول ملكية الأراضي الخصبة في سهول تيغراي الغربية. وفي المعسكرين يؤكدون أنهم مستعدون للموت دفاعا عنها، ومن بين هؤلاء أسفاو الذي كان في المجموعة الأولى من 15 ألف عائلة من الأمهرة تخطط سلطات المنطقة لنقلها من السودان.
وهذا الرجل غادر المنطقة سرا مطلع تسعينات القرن الماضي عندما كانت جبهة تحرير شعب تيغراي على وشك الاستيلاء على السلطة في إثيوبيا حيث هيمنت على السياسة الوطنية لمدة 27 عاما.
وقامت الجبهة بإعادة تقسيم البلاد إلى تسع مناطق إدارية أدت إلى إلحاق مدن في شمال غرب البلاد بينها حميراء بمنطقة تيغراي التي شُكلت حديثا. واعتبر الأمهرة ذلك استيلاء وحشيا على الأرض، لكنهم لم يتحركوا بسبب ترهيب كبير تعرضوا له.
إلا أن العديد من الأمهرة في غرب تيغراي يتذكرون بمرارة أيام جبهة تحرير شعب تيغراي ويتحدثون عن شعورهم بالخوف من التكلم بلغتهم في الأماكن العامة.
ومعظم قادة الأمهرة الذين كانوا يكافحون من أجل التغيير وخصوصا الذين يطالبون بحكم للأمهرة، كانوا يسجنون في أغلب الأحيان.
ومع وصول آبي أحمد إلى السلطة في العام 2018 تم تهميش قادة جبهة تحرير شعب تيغراي. وتحول الاستياء العميق بين السلطات الجديدة والقديمة إلى مواجهة مسلحة مطلع نوفمبر بمعارك أولى في حميراء وحولها.
وفي المناطق التي اتخذت فيها قوات الأمهرة مواقع بعد انسحاب الوحدات المؤيدة لجبهة تحرير شعب تيغراي، قامت بتدمير نصب الجبهة واحتلت معسكراتها. وفتحت السلطات فروعا محلية هناك لتحصيل الضرائب وإدارة المدارس، حيث يمكن للأطفال الدراسة باللغة الأمهرية.
كما قامت بتوزيع أراض ومنازل للآلاف من الأمهرة القادمين من مناطق أخرى في إثيوبيا مثل أسفاو أو من الخارج. وبين هؤلاء أيضا سيوم بريهون الذي يشعر بالسرور لهذا التحول.
وقال هذا المزارع “بدأت أعيش الآن. ومع أنني أبلغ من العمر 58 عاما، أعتبر حياتي القديمة فشلا. الآن بدأت حياة جديدة. لا أبالغ”.
تطهير عرقي

مع تدفق الأمهرة فر المدنيون التيغراي بعشرات الآلاف إما غربا إلى السودان أو شرقا إلى داخل تيغراي. وكان النزوح الجماعي ضخما إلى درجة أن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين أشار إلى “أعمال تطهير عرقي”.
وينفي حكام أمهرة ذلك بشكل قاطع، لكنهم يقولون إن المنطقة ليست جزءا من تيغراي وأن الأمهرة سيحكمونها في المستقبل.
وتقول وكالة الصحافة الفرنسية إنه خلال زيارة مراسليها إلى المنطقة، أرسل مسؤولون محليون مدنيين من التيغراي بقوا في المنطقة، ليؤكدوا أنه لم يتم إجبار أحد على الرحيل.
ويوضح تسفاي ولديجبريل (67 عاما) أنه كان خائفا على حياته في بداية القتال في نوفمبر، لكنه يؤكد أن مسؤولي أمهرة أكدوا له أن بإمكانه البقاء، مشيرا إلى أنّ الذين غادروا كانوا على صلة بجبهة تحرير شعب تيغراي.
وقال “عندما ترحل حكومة وتأتي أخرى يجب أن نرحب بها بفرح”. وتتعارض هذه الرواية للأحداث مع العديد من الروايات عن عمليات الطرد العنيفة التي سقط فيها قتلى في الكثير من الأحيان في هذا الجزء من تيغراي.
وينفي قادة تيغراي هذه الرواية. وقال رئيس حكومة تيغراي قبل الحرب ديبريتسيون جبريمايكل مؤخرا إن “أولئك الذين نهبوا ممتلكات حكومة تيغراي والأفراد ورجال الأعمال يجب أن يعيدوها بسرعة وإلا فإننا فسنفعل ذلك”.
ومع وصول جنود فيدراليين إلى غرب تيغراي، يستعد قادة الأمهرة للمواجهة. ونشر رئيس حكومة إقليم أمهرة أجيجنهو تيشاغر هذا الأسبوع تفاصيل حسابات بنكية لمن يرغبون في تمويل الأعمال الحربية المقبلة ضد جبهة تحرير شعب تيغراي. وقال إن المعركة لن تكون أقل من “صراع من أجل البقاء”.